أقرت الحكومة الإسبانية برئاسة بيدرو سانشيز في نهاية يوليوز الماضي مشروع قانون تاريخي يهدف إلى رفع السرية تدريجيا عن الوثائق المصنفة التي يزيد عمرها عن ستين عاما، والتي تعود بالتالي إلى حقبة نظام فرانكو. ومن المتوقع أن يدخل هذا التشريع، في حال اعتماده برلمانيا، حيز التنفيذ أواخر عام 2026، فاتحا الباب أمام كشف حقائق قد تؤثر بشكل مباشر على قضية الصحراء المغربية.
ويترقب المغرب باهتمام بالغ ما ستكشفه هذه الوثائق من تفاصيل حول إنشاء ما كان يعرف بـ”الصحراء الإسبانية”، والظروف التي أحاطت بتنظيم المسيرة الخضراء عام 1975، وصولا إلى ملابسات الانسحاب الإسباني من المنطقة. وتمثل هذه المعلومات المرتقبة أهمية كبرى ليس فقط للتاريخ الدبلوماسي الحديث لإسبانيا، بل أيضا للذاكرة الجماعية التي تربط المملكتين المغربية والإسبانية.
وفي هذا السياق، أكد الخبير في الشأن الصحراوي أحمد نورالدين أن فتح الأرشيفات الإسبانية المتعلقة بالصحراء المغربية يمثل خطوة تاريخية بالغة الأهمية، قادرة على تعزيز الموقف الدبلوماسي للمملكة بحقائق دامغة، لكنه في الوقت ذاته دق ناقوس الخطر من أن هذه الثروة الوثائقية قد تواجه مصير الأرشيفات الموجودة حاليا، فتتحول إلى مجرد حبر على ورق ما لم يتم استثمارها ضمن استراتيجية وطنية محكمة تهدف إلى طي النزاع المفتعل بشكل نهائي وبلا رجعة في أروقة الأمم المتحدة.
وأوضح نورالدين في تصريح خص به جريدة “العمق” أن الفوائد التي يمكن جنيها من هذه الوثائق عظيمة، وستضيء جوانب حاسمة من تاريخ المنطقة على ستة مستويات رئيسية على الأقل. وذكر أن المستوى الأول يتمثل في إثبات نشأة المشكلة، حيث ستبرهن الوثائق الإسبانية، كما فعلت الفرنسية من قبل، أن القوتين الاستعماريتين قامتا بتقسيم أراضي المملكة المغربية أو ما كان يعرف بالإمبراطورية الشريفة، وهو التقسيم الذي كان السبب المباشر في ظهور نزاع الصحراء. وأضاف أن المستوى الثاني سيكشف من خلال آلاف المراسلات الإدارية عن الاعتراف الإسباني الضمني والإداري بمغربية الصحراء، إذ كانت السلطات الإسبانية في الإقليم تابعة إداريا لممثل السلطة المركزية الإسبانية في تطوان، وهو ما ينسف أطروحة “الانفصال عن المغرب”.
فصّل الخبير أن المستوى الثالث سيغوص في فضح المناورات الإسبانية لخلق بذرة الانفصال، بدءا من تأسيس كيان صوري تمثل في “الجماعة الصحراوية” كمجلس لممثلي القبائل، وصولا إلى تشجيع ودعم حزب “البونس”، مع العمل في الوقت نفسه على استبعاد كل الصحراويين الذين فروا من البطش الاستعماري نحو مدن شمال المغرب أو الذين تم تهجيرهم قسريا بعد عمليات جيش التحرير المغربي في الخمسينيات، من قوام إحصاء 1974. وأشار إلى أن المستوى الرابع سيسلط الضوء بشكل غير مسبوق على الدور البطولي لجيش التحرير المغربي في الصحراء، وذلك من خلال التقارير والمراسلات السياسية والعسكرية الإسبانية التي وثقت عملياته وتحركاته وتأثيره.
وكشف نورالدين أن المستوى الخامس من الفوائد سيتمثل في تعرية المناورات الدبلوماسية الإسبانية في أروقة الأمم المتحدة منذ أن أدرج المغرب ملف الصحراء وسيدي إفني في أجندة الهيئة الأممية. أما المستوى السادس، فقد وصفه بـ”القنبلة النووية”، حيث توقع أن يفضح الأرشيف بالتفصيل تآمر الدولة الجزائرية حديثة الاستقلال مع الاحتلال الإسباني منذ عام 1962، بهدف منع المغرب من استكمال وحدته الترابية واسترجاع إقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب، مما سيعري جذور وخلفيات النزاع بشكل كامل.
ورغم هذه الأهمية القصوى، حذر الخبير من أن الإشكال العويص لم يكن يوما في نقص الوثائق، مؤكدا أن الخزانة الملكية ومؤسسة أرشيف المغرب وجهات أخرى تمتلك من الوثائق ما يغني لإثبات سيادة المغرب التاريخية على أراضيه. وشدد على أن المشكلة الحقيقية تكمن في كيفية استثمار هذا الرصيد الوثائقي الهائل، الإسباني منه والفرنسي والمغربي، بشكل عقلاني وقانوني ودبلوماسي.
واقترح كمدخل أول وأساسي أن تقوم وزارة الخارجية بتوفير ميزانية خاصة وتخصيص مئات المنح للباحثين الجامعيين والدبلوماسيين المتمرسين والخبراء القانونيين، من خلال دفتر تحملات دقيق يسمح باستخراج كنوز هذه الأرشيفات وتحويلها إلى شواهد تاريخية ووثائق عسكرية ودبلوماسية تدعم صياغة مذكرات ترافعية قوية ومتكاملة تهدف إلى إغلاق الملف بشكل نهائي.
واختتم نورالدين تحذيره بصورة بليغة، قائلا إن غياب هذه الاستراتيجية سيؤدي إلى أن يتحول مصير الأرشيف الإسباني الثمين من خزانات إسبانيا وأدراجها إلى دهاليز مغربية مظلمة، تهدف فقط لوقايته من الرطوبة واللصوص، تماما كما هو الحال مع الأرشيف المتوفر لدينا منذ عقود وقرون، الذي لا يزال ينتظر من يحققه ويخرجه إلى دائرة الضوء في ظل تغافل الجامعات ومعهد الدراسات الإيبيرية، الذي قزمته وزارة التعليم العالي، كما حدث مع معهد الدراسات الإفريقية، وفي ظل بخل وزارة الخارجية عن تخصيص ميزانية سنوية لتحقيق الأرشيف واستكشافه ونشره وترجمته، وفق تعبيره.