كيف يمكن للسينما أن تكون أداة للبوح بما يُخفيه المجتمع خلف واجهاته الصامتة؟ وكيف تصبح الصورة وسيلة لمساءلة التاريخ والجسد والهوية والذاكرة؟ وأين يقف المخرج من حقل الالتزام حين تختلط الذكرى بالجراح؟ تلك بعض من الأسئلة التي تطرحها سينما حسن بنجلون، المخرج المغربي الذي حوّل الشاشة إلى دفتر اعتراف، واللغة البصرية إلى صرخة وجود. ولا تجد في أفلامه حضورا للزيف أو التزيين؛ بل واقع يئنّ تحت وطأة القهر والنسيان، وشخصيات تواجه مصائرها بأسئلة لا أجوبة لها. من بين تلك الشخصيات، نسمع في فيلم “المطمورة” صوت البطلة يقول: “صوت أبي ظل عالقا في الجدران، وأنا ما زلت أبحث عنه بين العيون التي لا تتكلم”. إنه صوت جيل بأكمله يحمل آثار القمع والإقصاء والتهميش، جيل يبحث عن ذاكرة وعن وطن داخلي مفقود. وفي هذه السينما، لا وجود للسكينة، بل نيران القلق مستمر والدهشة أمام ما لم يُقال بعد. والسؤال كيف يراهن المخرج على الإنسان أمام جراح ذاكرة مثخنة بالجراح وقسوة السلطة؟
تُعد سينما حسن بنجلون واحدة من التجارب المغربية المميزة التي حاولت، عبر أكثر من ثلاثة عقود، أن تلامس تعقيدات الذات المغربية المعاصرة؛ من خلال استحضار الماضي، مساءلة السلطة، وتحليل البنية الاجتماعية في ضوء تحولات الواقع. إنها سينما تنتمي إلى حقل ما يمكن تسميته بـ”السينما النقدية الاجتماعية”، والتي تتقاطع في لحظات كثيرة مع السينما السياسية؛ ولكنها تظل أكثر التصاقا بالبعد الإنساني، بلغة واقعية أحيانا وشاعرية أحيانا أخرى، مما يجعلها قريبة من نبض الناس وهمومهم اليومية. وقد راكم بنجلون تجربة خاصة تجمع بين التأمل في الذاكرة واستحضار الأحداث المفصلية في تاريخ المغرب، وبين مساءلة العلاقات الاجتماعية والدور الذي تؤديه القيم السائدة في صناعة التواطؤ أو المقاومة.
وقد أطلق حسن بنجلون، منذ فيلمه “عرس الآخرين” سنة 1990، أولى بوادر مشروعه السينمائي، حيث جسد معاناة امرأة في مجتمع تقليدي يُعلي من شأن الجماعة على حساب الفرد، ومن خلال قصة زواج قسري بين رجل متزوج وامرأة شابة. ويعكس هذا الفيلم نزوع المخرج إلى مساءلة العلاقات العائلية من خلال منظور المرأة، ويطرح سؤالا جوهريا حول حرية الاختيار داخل البنى الاجتماعية المقيدة في المجتمع. وواصل، لاحقا، في فيلم “ياريت” أو “زمن أغنية” سنة 1993، تفكيك البنية المحافظة للمجتمع المغربي، مركزا هذه المرة على علاقة الفن بالسلطة، من خلال حكاية مغنية تحاول التعبير عن ذاتها في بيئة لا تتقبل صوت المرأة. وظل موضوع الحرية الشخصية حاضرا بقوة في سينما بنجلون، باعتباره مرآة لمجتمع يتحكم في الجسد الأنثوي ويمنح الشرعية دائما لصوت السلطة الأبوية.
ويمكن تصنيف سينما بنجلون أنها تنتمي إلى ما يمكن وصفه بتيار السينما الواقعية ذات الطابع الاجتماعي؛ ولكنها لا تكتفي فقط بالتشخيص، بل تنفتح على خلفيات تاريخية وسياسية تضيء السياقات التي تشكلت فيها هذه المعاناة. وقد اختار المخرج، في فيلمه “محاكمة امرأة” سنة 2002، أن يعري النظام القضائي من خلال قصة امرأة تُحاكم على خلفية أخلاقية، ليطرح السؤال حول العدالة والتمييز القائم على النوع. ويُمكن اعتبار هذا الفيلم بيانا سينمائيا ضد التواطؤ المؤسسي مع منطق الإذلال والتحكم والهيمنة، حيث تعبر إحدى شخصيات الفيلم: “القانون لا يعرف العدل، بل يعرف من كتبه”. وهنا تبرز إحدى الأطروحات الأساسية لسينما بنجلون، وهي أن القانون والعدالة ليسا دائما مترادفين، وأن المرأة تبقى في الهامش حين يتعلق الأمر بحقها في السرد والدفاع.
وتتسم سينما بنجلون بإحساس عميق بالتاريخ، سواء عبر إعادة تمثيله أو مساءلته. ويعيد في فيلم “ولد الدرب”، (1993)، إنتاج لحظة من طفولة شخصيات في أزقة مغربية ضيقة، حيث تشكل الصداقات والهويات تحت ضغط الفقر والتقاليد. ويتناول في فيلم “الغرفة السوداء” أو “درب مولاي الشريف”(2004)، والذي يعد من أبرز أفلامه وأكثرها جرأة، قضايا الاعتقال السياسي والتعذيب خلال سنوات الرصاص. ويستدعي المخرج في هذا الفيلم فظاعات السجون السرية دون التورط في الخطابة، بل عبر مشاهد صادمة بلغة بصرية مقتضبة تقطع مع البهرجة السينمائية وتراهن على الصمت والرمز. ولم يكن الليل في “في الغرفة السوداء، (2004)، فقط خارج النافذة، بل كان الليل داخلي أيضا “، يقول أحد المعتقلين، في لحظة تلخص فلسفة الفيلم في ربط القمع الخارجي بالقمع الداخلي، أي بالرضوخ والتكيف النفسي مع العنف.
تندرج هذه السينما كذلك ضمن ما يُعرف بـ”سينما الذاكرة”، لكنها ليست ذاكرة رومانسية بل ذاكرة مقاومة، توظف الماضي لكشف الحاضر وتفكيك بنياته. وقد تناول المخرج، في فيلمه “فاين ماشي يا موشي؟”، قضية هجرة اليهود المغاربة في لحظة ما بعد الاستقلال، متسائلا عن التعايش وعن صناعة الهويات الوطنية. ولم يكن هدف الفيلم فقط التأريخ لهذه الهجرة، بل مساءلة الخطابات التي دُفعت بها، ودور الدولة والمجتمع في صنع القطيعة. ويتحدث الفيلم عن قرية مغربية يعيش فيها اليهود والمسلمون في سلام، قبل أن تدخل السياسة وتقطع وشائج القربى. وفي أحد المشاهد تقول شخصية: “لم يكن لنا علم بإسرائيل، كنا نعرف فقط جيراننا الذين صاروا فجأة غرباء”. وتلخص هذه الجملة استعاريا قدرة الفيلم على تفكيك سردية التعايش، ليس لنفيها بل لإبراز هشاشتها أمام جبروت الدولة والسلطة الدينية والسياسية.
ويسلط بنجلون، في فيلم “المطمورة”، الضوء على جرائم دفن المعارضين السياسيين في السر، في سردية سينمائية قائمة على اكتشاف الماضي من خلال أثره في الحاضر. وينتمي الفيلم إلى سينما الحقيقة، حيث يتم ربط حكاية شخصية بجريمة سياسية غير موثقة رسميا. ويعود المخرج إلى النبش في مساحات الظل والتاريخ غير المكتوب، ويجعل من السينما وسيلة لإعادة الاعتبار للضحايا، عبر سرديات مضادة. ولا يبحث الفيلم عن إدانة مباشرة؛ بل يخلق شروط التساؤل، ويضع المتفرج في موقع الفاعل الأخلاقي. وفي هذا السياق، تقول إحدى الشخصيات: “أكثر القبور ضجيجا، تلك التي لا أسماء فوقها”، في إشارة رمزية إلى المنسيين في سردية الوطن.
ويستمر المخرج في الاشتغال على قضية النسيان والذاكرة في فيلم “المنسيون” (2010)؛ وهو ما يعكس رؤية بنجلون للسينما باعتبارها عملية استعادة للمنفي والمقصي. ويرسم الفيلم صورة لمجموعة من المغاربة الذين حوصروا في فيتنام بعد حرب الهند الصينية، وهو موضوع نادر التناول في السينما المغربية. وقد اشتغل المخرج على صدمة الهوية، وضياع الانتماء، والخذلان السياسي. ويظهر في الفيلم أن الفرد يُنسى حين لا يُكتب تاريخه، بل ويُقتل مرتين: مرة في الجبهة ومرة في الذاكرة. أما فيلم “القمر الأحمر”، فقد اختار فيه بنجلون التوقف عند سيرة فنان ملتزم هو عبد السلام عامر، ليقدم تأملا في مصير الفن في بلد لا يعترف بجماله. وتقول شخصية: “في البلاد التي تُحاكم فيها الألحان، يصبح الصمت أغنية أخيرة”.
وتُظهر سينما بنجلون حساسية مفرطة تجاه البعد الإنساني للسياسة، إذ لا تعنيه السلطة في بعدها المؤسسي فحسب؛ بل في أثرها النفسي والمعنوي على الكائن. ويرصد المخرج، في فيلم “اختيار أسماء”، مأساة امرأة في صراعها بين خيارين: الخضوع للقيود الاجتماعية أو إعلان الذات مهما كان الثمن. ويلتقي هذا الفيلم مع أطروحات المخرج السابقة حول حرية المرأة؛ لكنه هذه المرة أكثر تركيزا على سؤال الهوية. وتتأسس سينما بنجلون دائما على التساؤل دون رغبة في الجواب: من نحن حين نُجبر على أن نكون غير ما نحن عليه؟ وهي في ذلك تستنطق التفاصيل والإيماءات والصمت، كما لو أن الإجابة كامنة في ما لا يُقال أكثر مما يُقال.
ويُعد فيلم “من أجل القضية” من أبرز أعمال بنجلون في العقد الأخير، من حيث تركيبته الدرامية والتقنية، إذ يحكي عن شاب فلسطيني وموسيقية مغربية يمنعان من عبور الحدود بين بلدين مغاربيين بسبب أزمة سياسية، ليجدا نفسيهما محاصرين معلقين في منطقة عازلة. ويوسع المخرج من خلال هذا الفيلم نطاق اهتمامه، ويفتح النقاش حول الحدود والهوية والعنف السياسي. ولا يظهر العدو بشكل مباشر، بل يتجسد في البيروقراطية والجهل والخوف من الآخر. ويُدين الفيلم النظام الحدودي العربي، ويكشف هشاشة التضامن الخطابي حين يوضع على المحك. ويقول البطل: “حين تُمنع من الدخول إلى وطن لا تعرفه، وتُمنع من الخروج من وطن لا يحبك، ويصبح العالم بأكمله سجنا”. إنها سينما الحدود، لكن أيضا سينما المهاجر والمنفي والمحروم من حق التنقل، وهي أطروحة سياسية عميقة تفكك الانتماء إلى الأرض من خلال سؤال الجغرافيا والسيادة.
ولا تمثل سينما حسن بنجلون ترفا سرديا ولا مجرد إنتاج بصري لمآسي الماضي؛ بل هي أداة نقد ومقاومة وكتابة بديلة. وتشتغل على مفهوم “الذاكرة كفعل مقاومة”، وتبحث عن الإنسان في تشظياته، وفي صراعه مع السلطة ومع القبيلة ومع الدولة ومع الذات. إنها سينما تأملية، ذات طابع واقعي، تنتمي إلى خط مخرجات ومخرجين اختاروا أن يعبروا عن قضايا المجتمع من زاوية المهمشين والمقصيين؛ لكنها لا تسقط في المباشرة، بل تصوغ خطابها بلغة شاعرية أحيانا، ووثائقية أحيانا أخرى، درامية في الغالب، دون أن تتخلى عن بعدها الأخلاقي والقيمي.
وتندرج سينما حسن بنجلون بهذه الخصوصية والنفس الكفاحي، ضمن ما يُمكن تسميته بـ”سينما الضمير”، أي السينما التي تُذكر بما ينبغي ألا ننساه، وتحفر في ما تم دفنه، وتراهن على ذاكرة بصرية تعيد الاعتبار للمسكوت عنه. وتقدم أفلامه شهادات، لكنها أيضا أسئلة مفتوحة لا تقدم أجوبة جاهزة. وتشكل أفلامه بين “الغرفة السوداء” و”من أجل القضية” وبين “محاكمة امرأة” و”فاين ماشي يا موشي؟” خريطة سينمائية لوعي مغربي يرفض النسيان، ويؤمن أن السينما يمكن أن تكون منصة للعدالة الرمزية، حين تغيب العدالة الفعلية.
لا يمثل البطل في سينما حسن بنجلون كائنا خارقا ولا نموذجا أسطوريا مكتملا، ولا موطنا مكتمل المواطنة؛ بل هو شخصية هشّة، مترددة، محطّمة أحيانا، مقاومة أحيانا أخرى. ويحمل هذا البطل عبء التاريخ والواقع، وغالبا ما يُطرح ككائن مأزوم وبطل إشكالي، في مواجهة سلطة ما، سواء كانت سلطة المجتمع أو السلطة السياسية أو حتى سلطة الذاكرة والذنب. وفي هذا السياق، يتجاوز مفهوم البطل في سينما بنجلون الأدوار التقليدية ليصبح أداة لفهم المجتمع من الداخل، مرآة لتناقضاته، وصدى لانكساراته التي لا تنتهي. ويحاول البطل هنا كشخص النجاة في واقع مأزوم، ويختبر الهزيمة والأمل في آن واحد، وهو في أغلب الأحيان ينهزم دون أن يفقد كرامته، أو ينتصر بشكل رمزي فقط.
ويتجلى البطل في فيلم “الغرفة السوداء” أو فيلم “درب مولاي الشريف”، (2004) في شخصية المعتقل السياسي الذي يعيش في الظل لعقود من الزمن. ولا يحمل هذا البطل صفة القيادة ولا يتحدث باسم إيديولوجيا صاخبة، بل هو ضحية صامتة، يختزن الألم دون أن يفقد صوته الداخلي. ولا يمكن لشخصية مثل هذه أن تقود الثورة لكنها تكشف الوجه الحقيقي للسلطة، تقول إحدى الشخصيات في الفيلم: “يوجد في الخارج ضوء كثير، لكن هنا في الداخل لا يوجد سوى صدى الخطوات، وصدى العذاب”. وتلخص هذه العبارة معاناة البطل في هذه السينما: وجود محاصر بجدران السلطة وبصمت وترقب المجتمع. ولا يمثل البطل هنا من يقاتل فحسب، بل من يصمد في وجه قبح السلطة.
وتواجه البطلة / امرأة في فيلم “محاكمة امرأة” (2002)، سلطة ثلاثية الأبعاد: القانون، المجتمع، والأسرة. ولا تقدم الشخصية نفسها كضحية فقط، بل تطرح خطابا نقديا حول مفهوم العدالة والمساواة. ولا تعتبر هذه المرأة بطلة ملحمية، بل شخصية تبحث عن العدالة في نظام لا يعترف بها، حين تقول في المحكمة: “أن تكوني امرأة في هذا البلد، يعني أن تقبلي بالحكم عليك قبل أن يُسمع صوتك”، فهي لا تدافع فقط عن نفسها، بل تُدين بنية متجذرة في العقل الجمعي. وتجسّد شخصية كهذه كيف يتحول الفرد في سينما بنجلون إلى شاهد ومتهم في الوقت نفسه، ضحية يطلب الاعتراف، وفاعل يُنتج المعنى.
ويظهر البطل اليهودي المغربي في فيلم “فاين ماشي يا موشي؟ “(2007)، كشخصية ممزقة بين الانتماء الديني والانتماء الثقافي، بين ذكريات الطفولة وخطابات الهجرة. ولا يُقدَّم البطل هنا كضحية للواقع السياسي فقط، بل كمنفي داخليا، كذات لا تجد مكانها في وطن صار يرفضها تدريجيا. تتجول الشخصية في الزمان أكثر مما تتجول في المكان، وتسائل الشخصية مفهوم الوطن والانتماء، حين تردد إحدى الشخصيات: “نحن لا نرحل، نحن نُرحّل”، وتتضح المأساة، ويبرز البطل ككائن يتحرك بفعل القسر لا بفعل الاختيار. ويتحول البطل هنا إلى رمز لزمن قُتل فيه التعايش، ويصبح موضع تساؤل حول من يُعتبر مغربيا ومن يُقصى من الوطن بدعاوي وخلفيات متعددة.
ويقدم فيلم “المطمورة” (2009) نموذجا آخر للبطل، وهذه المرة من خلال شخصية الباحث في التاريخ، الذي يكتشف حفرة جماعية لضحايا سنوات الرصاص. ولا يكون البطل هنا هو الضحية فقط، بل من يُصرّ على نبش الذاكرة. ويتحول الباحث إلى رمز للمثقف القلق، الذي لا يكتفي بالمشاهدة، بل يطرح الأسئلة ويفتح الجراح. ولا يحلّ هذا البطل المشكل، لكنه يرفض دفنه. وقال البطل في مشهد مؤثر: “إذا كانت الحقيقة مدفونة، فالعدالة صارت ترابا”، ويعبر هذا التصريح عن الحس الأخلاقي العالي الذي تتميز به شخصيات بنجلون. ولا يبحث هؤلاء الأبطال عن النصر بل عن المعنى، وهم واعون بأن الحقيقة أحيانا تؤلم أكثر من الصمت.
ويُستدعى في فيلم “القمر الأحمر” (2013) الفنان عبد السلام عامر كبطل يواجه ليس فقط المرض والعمى، بل تجاهل الدولة والجحود الاجتماعي. إنه بطل ثقافي، يرمز إلى إبداع يُنتج في الهامش، ولا يتم الاعتراف به إلا بعد الفقدان. ولا يعتبر هذا البطل صاخبا ولا ثوريا؛ بل شاعر موسيقي تنخره الهشاشة، ويمنحه الإبداع مبررا للاستمرار. ويقول في لحظة حزن: “لا أرى الناس؛ لكنني أسمعهم وهم يبتعدون عني”، وتحمل هذه العبارة أبعادا رمزية عن العزلة والجحود التي يعيشها المثقف في مجتمع يعلي من شأن السياسة وينسى قيم الجمال والنقد. ويتحول هذا البطل إلى ضحية للفقدان مرتين؛ فقدان البصر، وفقدان الاعتراف والتهميش.
ويعيد فيلم “المنسيون”، (2010)، تشكيل البطل من خلال مجموعة من الجنود المغاربة الذين تم التخلي عنهم بعد حرب الهند الصينية. ولا يملك هؤلاء الجنود حتى ترف الذاكرة، إنهم منفيون من التاريخ، بلا وطن، بلا هوية. ويصبح البطل هنا منسيا بشكل مضاعف؛ أولا لأنه لا يُذكر، وثانيا لأنه لا يُراد له أن يُذكر. ويعكس الفيلم هشاشة الروابط بين الدولة والمواطن، ويجعل من البطل تجسيدا للخذلان الوطني. وفي مشهد صامت، يجلس أحدهم على حجر ويقول: “لقد قاتلنا من أجل علم لم نكن نراه”، ويبرز هنا التناقض بين التضحية وعدم الاعتراف، ويصبح البطل علامة على قسوة السلطة وجحود الوطن.
ونجد في فيلم “اختيار أسماء”، (2016)، بطلة متمردة تحاول شق طريقها وسط حقل مليء بالألغام الاجتماعية. إنها امرأة تعاني من العنف الرمزي وتبحث عن هوية خارج ما يُراد لها أن تكونه. وتردد: “اسمي ليس لي، أعطوني إياه لكي أكون غيري”، وتلخص هذه الجملة قلق الذات النسوية في مواجهة نماذج مفروضة سلفا. ويحاول البطل هنا كائن استعادة اسمه وروايته، وهي محاولة رمزية لاستعادة الحق في أن يكون المرء ما يشاء. وتنتمي شخصية مثل أسماء إلى جيل جديد من الأبطال في سينما بنجلون، يتمردون على الذاكرة المفروضة، وينحتون هويتهم من الألم لا من الإملاء وسياسة الفرض.
ونجد في فيلم “من أجل القضية”، (2019)، بطلا فلسطينيا وفنانة موسيقية مغربية في مواجهة عبث الحدود وجمود الدولة. ولا يتجلى البطل هنا فقط في فعله بل في صموده. هما شخصيتان تُحاصران في مساحة عازلة، لكنهما يكتشفان حدود الوطن وحدود الخوف وحدود اللغة. ويقول الشاب الفلسطيني: “أنا من وطن لا أستطيع الوصول إليه، وأنت من وطن لا يراك”. وتلخص هذه المفارقة طبيعة البطل في هذا الفيلم، إنه كائن محروم من الجغرافيا ومخنوق بالرمزية السياسية. ولا تمثل الشخصيتان نماذج للبطولة التقليدية، بل إنهما رمزان لضحايا السياسات والمآزق العربية المعاصرة…
ويتأسس مفهوم البطل في سينما حسن بنجلون عن ذات تبحث عن المعنى داخل عالم يفتقد للعدالة، شخصية تُختبر الشخصية باستمرار في قناعاتها، وتدفع ثمن صدقها، وتُحاصر بين ما تريده وما يُفرض عليها. إنه بطل لا يصرخ لكنه يواجه، لا يملك سلاحا لكنه يمتلك موقفا، لا يقف على منصة بل في الهوامش. وتعيش شخصيات بنجلون دائما نوعا من التمزق بين الذاكرة والواقع، بين الأمل والخيانة، بين الحلم والنسيان. إنهم أبطال لا يغيرون العالم، لكنهم يكشفون حقيقته، ولا ينتصرون، لكنهم لا يستسلمون أيضا. وهذه هي البطولة الحقيقية في سينما تُراهن على الإنسان لا على البطولة المقولبة والمزيفة.
تتشكل سينما المخرج المغربي حسن بنجلون في تفاعل جدلي بين عناصر السرد والخطاب والصورة والجمال والانتماء، لتنتج هوية سينمائية متفردة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بسينما الوعي والضمير، وتؤمن هذه السينما بأن للكاميرا وظيفة تتجاوز الترف الجمالي إلى مساءلة الواقع واستنطاق الصمت وتوثيق الذاكرة. وقد حافظ المخرج، منذ بداياته في تسعينيات القرن العشرين وحتى آخر أفلامه، على صوت متماسك، له نبرة سردية فيلميه خاصة، ولغة بصرية متقشفة أحيانا وشاعرية أحيانا أخرى، وخطاب جمالي لا ينفصل عن القيم التي يحملها. ولا تعرف هذه السينما لغة الحياد، بل تنتمي إلى قضايا الإنسان المغربي، وتحمل همّ العدالة والحرية والكرامة، وتشتبك مع الطابوهات السياسية والاجتماعية، دون أن تسقط في المباشرة أو الانفعال الخطابي.
وتتسم سينما بنجلون في هويتها بالتركيب والتعقيد، وهي قائمة على تشظي الزمن وتعدد وجهات النظر والانزياح عن التسلسل الخطي للأحداث. ولا يبدأ الحكي من نقطة معلومة ولا ينتهي بإغلاق محكم، بل يُترك الفضاء السردي مفتوحا على التأويل، كما لو أن الحكاية لا تُروى من أجل نهايتها، بل من أجل ما تكشفه من وجوه الواقع. وتتداخل في فيلم “الغرفة السوداء”، مثلا، مشاهد الذاكرة مع لحظات العذاب في السجن، ويمتزج الماضي بالحاضر داخل نفسية السجين، بحيث لا يعود الزمن خطا مستقيما؛ بل دوامة من المشاعر والتجارب والارتجافات والقهر. ولا يعتمد المخرج على حبكة تقليدية، بل يبني سرديته على المفارقات والمواقف والانكسارات الصغيرة التي تتحول إلى علامات كبرى. وغالبا ما يكون السارد في أفلامه غائبا أو غير موثوق؛ ما يفتح النص السينمائي على شك فلسفي يتقاطع مع سؤال الحقيقة والذاكرة.
ونلاحظ في البنية الخطابية لأفلامه وضوحا في الانحياز إلى القضايا العادلة، من دون الوقوع في التقريرية. ولا يمثل خطاب بنجلون الوعظ وتقديم النصائح الدعوية؛ بل على التحليل والتأمل والتفكيك، ويتغلغل في بنيات المجتمع ويكشفها من الداخل عبر شخصيات مأزومة وأحداث محلية لكنها ذات أفق إنساني كوني. ويتحول الخطاب القضائي في فيلم “محاكمة امرأة ” إلى مرايا متعددة تعكس كيف يُستعمل القانون لتكريس الظلم بدل رفعه. وهنا، يكشف بنجلون زيف الحياد القانوني ويطرح سؤالا جذريا حول العدالة. ويتحول الخطاب في فيلم “فاين ماشي يا موشي؟” إلى أداة تفكيك للعلاقات بين الأديان والثقافات داخل المجتمع المغربي ومساءلة مفهوم التعايش والتسامح، متسائلا عن معنى التعايش ومصير من يُقصى من السردية الوطنية. ولا يُقدَّم الخطاب هنا كنص موازٍ للصورة، بل ينبثق منها، ويتوزع عبر الحوارات والإيماءات والصمت، بحيث يصير المتلقي شريكا في إنتاج المعنى لا مجرد متلقٍّ له.
وتتسم الهوية البصرية في سينما بنجلون بالتقشف والاقتصاد، لكنها ليست فقيرة، بل مشحونة بالدلالات، وتُوظف الضوء والظل والصمت والفراغ لإنتاج تأثيرات جمالية ونفسية. ولا تُستخدم الصورة فقط للتوثيق بل للتأويل، وكثيرا ما نجد الكاميرا ثابتة في مشهد طويل يسمح للمكان بالكلام. وتصبح الصحراء في فيلم “المطمورة” شخصية ثالثة ترافق الأبطال، وتتحول إلى شاهد صامت على الجريمة. وتُستثمر زوايا الإضاءة في فيلم “القمر الأحمر” لتكثيف عتمة الفقد، خصوصا أن البطل كفيف؛ ما يجعل الصورة نفسها تنطوي على مفارقة بصرية بين ما يُرى وما لا يُرى. ويستخدم بنجلون اللون والفضاء والحركة بذكاء، حيث تصبح اللغة البصرية امتدادا للغة الشعورية لشخصياته. ولا يُغرق مشاهده في الزخرفة، بل يمنحها كرامة الفراغ، وجماليات البساطة. وهنا تُجنّد البنية البصرية لإبراز ما لا يُقال، ما يُحسّ فقط، ما يُلمَح ولا يُعلن.
وتنتمي سينما بنجلون على المستوى الجمالي إلى ما يمكن وصفه بالجماليات الأخلاقية، حيث لا ينفصل الحُسن عن الموقف ولا تنفصل الصورة عن القيمة. ولا تسعى أفلامه إلى إبهار العين بقدر ما تحاول أن تفتح بصيرة المتفرج على ما يُقصى ويُهمَّش. ولا يمثل الجمال هنا زينة بل فعل مقاومة، نوع من إعادة بناء العالم من شظاياه، نوع من منح الكرامة للمنسيين. ولا نجد في فيلم “المنسيون” لقطات بطولية ولا إضاءات سينمائية مبهرة، بل وجوه شاحبة، أماكن منفية، ولقطات تتأمل الخراب كما لو كانت ترثيه. ولا يُقاس الجمال هنا بالبُعد التقني بل بالمفعول الأخلاقي والوجداني للصورة. وتنبع هذه الجمالية من حس إنساني عالٍ، يجعل الفيلم شهادة وأثرا لا مجرد منتج فني.
ومن جهة أخرى، تنتمي سينما بنجلون إلى حقل سينمائي واضح: سينما الذاكرة، أو سينما الالتزام النقدي، لكنها لا تقف عند الانتماء المدرسي بل تطور خصوصيتها داخل هذا الإطار. وهوية هذه السينما مغربية من حيث اللغة والفضاء والهموم، لكنها تتجاوز الخصوصية المحلية لتلامس قضايا إنسانية كبرى مثل القمع والنفي والخيانة والعدل والهُوية والحرية. ولا يعتبر الانتماء في هذه السينما جغرافيا فقط بل وجدانيا، إنها سينما تنتمي إلى الضحايا أكثر من انتسابها إلى السلطة، وإلى الهمس أكثر من الضجيج، وإلى السؤال أكثر من الجواب. ويختار المخرج شخصيات تنتمي هي الأخرى إلى الهوامش وإلى ثقافة الهامش، وهي نساء محاكمات، فنانون منسيون، معتقلون سابقون، مهاجرون داخليون، ويهود مغاربة يعانون من فقدان وطن كان يوما ما وطنا. ولا يتم هذا الانتماء عبر التباهي به، بل يُفكَّك ويُساءَل في ضوء هشاشته، كما في فيلم “من أجل القضية”، حيث تُطرح الهوية القومية كمعضلة لا كيقين.
ولا تتأسس هوية سينما بنجلون على قوالب جاهزة بل مشروع إبداعي مفتوح، قيد التشكّل المستمر، يتجدد بتجدد أسئلته، ويتعمق كلما اقترب من الألم الإنساني. وترفض هذه السينما الابتزاز العاطفي لكنها لا تتخلى عن الشعور، وترفض الخطاب التقريري لكنها لا تغيب عن الواقع، ترفض الدوغمائية لكنها لا تتخلى عن المبادئ والقيم. إنها سينما مشتبكة مع زمنها، تحتك بالقضايا الحارقة، وتعالجها بحس فني يجمع بين الصرامة والرحمة. ويعيد بنجلون في سينماه تشكيل صوته دون أن يفقده، ويختبر إمكانيات الصورة في مواجهة الصمت، ويمنح للمنسيين حقا في الظهور، للضحايا حقا في الرواية، وللمتفرج فرصة لاكتشاف ذاته من خلال الآخر.
هكذا تتشكل الهوية الفيلمية في سينما حسن بنجلون كنسيج متكامل، لا يمكن فصل أحد مكوناتها عن الأخرى، لأنها كلها تتعاون لصياغة سينما لها طابع خاص، صوت مغربي عميق، لا يكتفي بالتمثيل بل يقترح سرديات مضادة لما هو سائد ومألوف، ويخلق من الفيلم مساحة للبوح والمساءلة والتاريخ المضاد والثقافة البديلة. إنها هوية سينمائية تصرّ على أن تظل وفية لكرامة الإنسان، لا تتخلى عن حساسيتها أمام البؤس، ولا عن أناقتها أمام الخراب.
تشكل سينما المخرج المغربي حسن بنجلون فضاء دلاليا متعدد الأبعاد، تتقاطع داخله مستويات متعددة، ليخرج المتلقي من تجربة المشاهدة وهو مثقل بأسئلة أكثر من الأجوبة. إنها سينما لا تشتغل فقط على ما يُرى، بل على ما يُحسّ ويُكتم، حيث تتحول الشخصيات إلى مرايا لجماعات بأكملها، والمواقف الفردية إلى انعكاس لتوترات بنيوية أعمق. وتتميز هذه السينما بقدرتها على التقاط التفاصيل المعبرة عن لحظات الانهيارات كبرى، وعلى مساءلة الذاكرة دون أن تَسقط في خطابية تعليمية، بل عبر بناء درامي حساس ومتوتر.
وتكشف سينما بنجلون اجتماعيا عن مفارقات العيش في مجتمع يحاصر الفرد داخل طقوس تقليدية وقيم محافظة. ويشتغل المخرج على نساء مقهورات، ومواطنين على الهامش، وأحياء فقيرة تتحول إلى رموز للاختناق المجتمعي. وفي فيلم “عرس الآخرين”، مثلا، يتم فرض الزواج على فتاة لا تحب، فقط لإرضاء الأعراف والعائلة، وتقول الشخصية: “هم يحتفلون بعرسي، وأنا أدفن نفسي”، وهنا تكثف الجملة اختناق الذات تحت وطأة الجماعة. ويبرز هذا النمط من التناول كيف يتواطأ المجتمع مع أجهزته الرمزية، كالعائلة والدين والذكورة، ضد حرية الفرد وكرامته. وتواجه المرأة في فيلم “ياريت” أو “زمن أغنية” القمع الاجتماعي حين تُمنع من الغناء، فتقول: “صوتي لا يليق بهذه الأرض، هكذا قالوا”، وتكشف بذلك كيف يمكن للمجتمع أن يطرد مبدعيه في لحظة التوتر.
وتنتمي سينما بنجلون سياسيا وبوضوح إلى سينما المساءلة، إذ تشتغل على فترات من التاريخ المغربي حيث امتزج القمع بالصمت، والسلطة بالخوف، والذاكرة بالنسيان القسري. ويعتبر فيلم “الغرفة السوداء” عملا سياسيا بامتياز، لا لأنه يصرخ ضد السلطة؛ بل لأنه يفتح جراحا كانت مغلقة عمدا. ويُصور الفيلم حياة معتقل سياسي في سنوات الرصاص، وحين يقول أحد أبطاله: “في الداخل لم نعد نعرف أسماءنا، صرنا أرقاما”، فإنه لا يصف فقط تجربة الاعتقال السياسي، بل يُدين مسارا بأكمله، حيث تصبح الذات قابلة للمحو باسم الدولة والسلطة السياسية. وتُكثف هذه العبارة فقدان الهوية والكرامة في ظل قمع سياسي ممنهج. ويذهب المخرج في فيلم “المطمورة”، كما فعل الطمر، إلى أبعد من ذلك، حين يعرض جريمة دفن المعارضين السياسيين في مقابر جماعية مجهولة، كأنما الوطن نفسه يرفض أبناءه إذا قالوا لا، ويجعل من الجسد السياسي مجرد أثر في تربة مسمومة، حين يقول إحدى الشخصيات: “كل حفرة تحتها وطن مذبوح”، وتُلخص هذه العبارة كيف تُختزل السياسة في العنف الرمزي والجسدي معا.
ويحتضر الجانب الاقتصادي بقوة في أفلام بنجلون، ليس بوصفه إحصاءات أو فقرا معلنا، بل كعوز مقنّع يُفكك أثر التهميش على الإنسان المغربي. ونجد في فيلم “ولد الدرب” مجموعة من الأطفال يكبرون في حي فقير، حيث الأمل ضيق مثل الزقاق، وحيث المستقبل مرهون بالصمت أو الهروب. ولا تظهر الثروة أو فكرة اقتسامها في هذه السينما، بل يظهر غيابها، ويظهر أثر غيابها على الحلم، على العلاقات، على الأخلاق. ويقول أحد الأطفال في الفيلم: “أريد أن أكون شرطيا فقط لأتمكن من الأكل كل يوم”، وتختصر هذه الجملة العلاقة المأزومة بين الحلم والمؤسسة في مجتمع يختنق اقتصاديا. ويطرح مستويات البعد الاقتصادي في فيلم “فاين ماشي يا موشي؟” كسبب لهجرة اليهود المغاربة، لا فقط في بعده المادي، بل من خلال الإحساس بالخذلان داخل نظام لا يعترف بمواطنتهم الكاملة. وتقول إحدى الشخصيات اليهودية: “غادرنا لأن خبزنا صار هشا أكثر من ذاكرتنا”، وهي إشارة بألم إلى هشاشة الوضع الاقتصادي والمعنوي معا.
ويُعد البعد النفسي في سينما بنجلون من أكثر الأبعاد تعقيدا ودقة، إذ لا يكتفي المخرج بتصوير الصدمة؛ بل يشتغل على تمثيل وتمثل آثارها المستديمة. ولا تعيش الشخصيات فقط على الألم، بل تحمله معها مثل ندبة وجرح لا تندمل. ونتابع في فيلم “المنسيون ” مغاربة الهند-الصينية، الذين تم نسيانهم في فيتنام بعد الحرب، ومن خلال وجوههم المرهقة ندرك كيف يمكن للنسيان أن يتحول إلى عقاب يومي، حين تقول إحدى الشخصيات: “أحلم بأن أُنسى مثلما نُسيت، لكن دون ألم هذه المرة”، وتبرز هذه الجملة الازدواج النفسي الذي يعيشه من يُقصى من التاريخ والجغرافيا. ويبرز البعد النفسي في فيلم “القمر الأحمر” كأغنية مغربية شهيرة، من خلال شخصية الفنان الكفيف، الذي فقد بصره ولكن لم يفقد حدسه، وتتحول الموسيقى إلى وسيلة للتماسك الداخلي، حين يقول: “أنا لا أرى العالم، لكنني أسمع انهياره”، فإنه يُجسد كيف يمكن للفن أن يكون وسيلة لتجاوز العتمة وقسوة السلطة وتمثلاتها.
ويربط البعد الرمزي في سينما بنجلون بهذه الأبعاد كلها بشبكة من الإشارات والدلالات والرموز التي تتجاوز الواقعي إلى المجازي والاستعارات. ولا تمثل كل شخصية في أفلامه فقط ما تظهر، بل تمثل طبقة أعمق من المعنى. وتصبح البطلة في فيلم “محاكمة امرأ” رمزا للعدالة المسلوبة، لجسد تُحاكمه الأخلاق ولا تحميه القوانين. ولا تعتبر المحكمة هنا مكانا للحسم، بل مسرحا للعار، والبطلة ليست متهمة فحسب، بل رمز لكينونة أنثوية محاصرة. ويتحول الاسم نفسه في فيلم “اختيار أسماء”، إلى سؤال رمزي، حيث البطلة تحاول أن تعيد تشكيل ذاتها من خلال اختيار اسم جديد، كأنها تقول إن الهوية لا تُفرض بل تُبنى. تقول: “اسمي ليس لي، إنه قيد على روحي”. وهنا، يظهر كيف يُمكن للاسم، كرمز ثقافي، أن يتحول إلى أداة للهيمنة. وتصبح الحدود نفسها في فيلم “من أجل القضية” رمزا للعجز العربي، إذ لا يمكن لشخصين أن يعبرا من دولة إلى أخرى بسبب خلاف سياسي. وتقول الموسيقية المغربية في الفيلم: “نحن محاصرون بين كلمتين، لا يمكننا الغناء بهما ولا الصمت معهما”، وتُبرز بذلك كيف أن الفن نفسه يُختنق داخل الحدود.
ولا تعتبر سينما حسن بنجلون فقط مرآة للواقع؛ بل عدسة تكشف أعماقه وتحلل طبقاته وتربط بين المستويات المختلفة للوجود الإنساني في المجتمع المغربي والعربي. ولا تتجاور سينما بنجلون، الأبعاد المتعددة ومستوياتها بشكل ميكانيكي، بل تتفاعل في كل لقطة وكل شخصية وكل صمت. وهذا التفاعل هو ما يمنح سينما بنجلون عمقها، وما يجعلها فعلا مقاوما بقدر ما هي شهادة، وما يجعل من شخصياته علامات تتكلم عن زمنها، لكنها لا تنحصر فيه، بل تفتح أبوابا للتفكير والتأمل في الإنسان حين يُحاصر من كل الجهات ولا يبقى له سوى صوته الداخلي يقول في ختام الصمت: أنا هنا، حتى وإن لم تروني…
تشكل سينما حسن بنجلون مرآة صادقة لوجدان المجتمع المغربي، حيث تنصهر القضايا الإنسانية والاجتماعية مع الحكاية الفردية في نسيج سينمائي لا يسعى إلى إثارة الضجيج بل إلى تفجير الأسئلة. وتتجسد سينماه من “فاين ماشي يا موشي؟” إلى “المنسيون”… كبحث دائم عن الحقيقة المخبأة في الهامش، وعن هوية يصوغها الألم والاختيار والاغتراب. ولا تمثل شخصياته أبطالا خارقين، بل كائنات قلقة، هشّة، تحمل على أكتافها تناقضات التاريخ والجغرافيا، وتصارع من أجل بصيص معنى وسط العتمة. ويتحول الفيلم في أعماله، إلى فضاء للبوح والتفكير والمساءلة، لا ملاذا للهروب أو التنفيس. وهكذا يؤسس بنجلون لنوع من السينما التي لا تُطمئن المشاهد بل تقلقه وتدفعه إلى التأمل في ذاته ومجتمعه. وكما قال أحد أبطال فيلم “من أجل القضية”: “أن تكون إنسانا في هذه الأرض، يعني أن تحمل حقيبة مليئة بالأسئلة، وتسير بها عاريا بين الجدران”. وهذه السينما لا تمنح أجوبة، بل تعلّمنا كيف نعيش مع السؤال.