أكد أستاذ القانون العام والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط، عبد الحافظ أدمينو، أن المغرب منخرط بشكل استراتيجي في التحولات الكبرى على المستوى العالمي.
وأوضح أدمينو، خلال حلوله ضيفا على برنامج “نبض العمق”، أن “العالم يشهد تحولات كبرى على المستوى العالمي والمغرب منخرط فيها بشكل استراتيجي، وفق تعبيره، من خلال تبنيه لنهج التخطيط بعيد المدى الذي يشمل رؤى تمتد على مدى 15 إلى 30 سنة، ويهدف إلى استباق المخاطر والتحديات التي قد تواجه البلاد”.
ومن بين أبرز الأمثلة الدالة على نجاعة هذا التوجه، حسب أدمينو، ‘ما شهده المغرب في السنوات الأخيرة من توالي سنوات الجفاف، فقد مكّنت التوجيهات الملكية من دفع الحكومة إلى إعداد استراتيجية مائية جديدة، قائمة على تقليص الاعتماد على الموارد التقليدية، والانتقال نحو موارد مائية غير اعتيادية، كتحلية مياه البحر لتأمين حاجيات المواطنين من الماء الصالح للشرب وأيضًا لسقي الأراضي الفلاحية.
كما مكنت هذه السياسات، حسب المتحدث ذاته، من إطلاق مشاريع استراتيجية كبرى، مثل محطة تحلية المياه في أكادير، ومشاريع مماثلة في الداخلة وغيرها، وهي مشاريع تضمن استمرارية النشاط الفلاحي، وتساهم في تعزيز الأمن الغذائي الوطني، كما أن مشروع الربط بين مناطق المغرب عبر أنابيب مياه لنقلها من الشمال إلى الجنوب والشرق يُعد مشروعًا هيكليًا بالغ الأهمية، لأنه يكرّس استقلالية المغرب المائية ويقلل من ارتهانه للتساقطات المطرية، على حد قوله.
وحسب أدمينو، فإن “ما يواكب هذه الدينامية من تحديثات يشمل أيضًا إدماج البعد البيئي والاعتماد على الرقمنة والذكاء الاصطناعي في تطوير الأنشطة الصناعية والفلاحية، مما يسهم في خفض التكاليف وتحسين جودة المنتجات”، ملفتا أن “كل هذه التدابير تندرج ضمن جهد مشترك بين التوجيه الاستراتيجي الملكي وعمل الحكومة، من أجل ملاءمة السياسات العمومية مع التحولات الدولية، واستباق المخاطر التي قد تهدد المسار التنموي الوطني”.
وأشار إلى أن خطاب هذه السنة يُعد خطابًا ذا أهمية خاصة، لكونه يأتي في سياق اقتصادي واجتماعي ودولي متحول، حيث لا تزال التحولات الجيوستراتيجية العالمية تلقي، وفق تعبيره، بظلالها على الخيارات الأساسية والسياسات العمومية المعتمدة، كما أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المغرب يتأثر بشكل واضح بسنوات الجفاف المتتالية، التي بلغت ست سنوات، ما كان له أثر كبير على التوجهات العامة.
وحسب أستاذ العلوم السياسية، فإن الخطاب الملكي لهذه السنة يؤسس لاختيارات جديدة في بنية الاقتصاد المغربي، حيث لم تعد الفلاحة تحظى بنفس المكانة السابقة، وتم الانتقال نحو التركيز على قطاعات جديدة، لا سيما الصناعية، بما في ذلك صناعات الجيل الجديد، إلى جانب ذلك، فإن الخطاب محكوم أيضًا بسياق سياسي داخلي، على حد قوله، بالنظر إلى أننا على مشارف سنة انتخابية، إذ لم يعد يفصلنا سوى عام واحد عن انتخابات 2026.
وذكر أن القضية الثابتة والراسخة التي تعود دائمًا في خطب العرش هي قضية الوحدة الترابية، كما أن الخطاب الملكي غالبًا ما يفتح هذه القضية على آفاق جديدة، لا سيما من خلال توجيه رسائل إلى دول الجوار، وفي مقدمتها الجزائر، ملفتا أنها المرة الثالثة التي يُجدد فيها الملك دعوته إلى بناء علاقات مبنية على اليد الممدودة، وعلى إيمان المغرب بدور الاتحاد المغاربي، وأهمية تجاوز العراقيل التي لا تزال تحول دون تفعيل هذا المشروع الإقليمي المشترك.
وأبرز أن خطاب العرش على مدار 26 سنة في عهد الملك محمد السادس يجسد بعدين أساسيين، أولهما البعد الرمزي، حسب أدمينو، الذي يتمثل في التأكيد الدائم على عمق الأواصر التي تربط بين العرش والشعب، كما أن هذه المناسبة تُعد لحظةً بالغة الأهمية ضمن منظومة إمارة المؤمنين، إذ تشكل مناسبة لتجديد البيعة، فمن الزاوية الدينية والرمزية، تُمثل هذه اللحظة محطة فارقة في تاريخ النظام السياسي ببلادنا، نظراً لما تحمله من أبعاد دينية ومؤسساتية.
أما البعد الثاني، حسب الأستاذ الجامعي، فيتجلى في أن خطب العرش لطالما تضمن قراءات تحليلية لما تحقق من منجزات، إلى جانب استشراف للآفاق والمشاريع المستقبلية التي يتعين على الحكومة وباقي الفاعلين الانخراط فيها، من أجل تجاوز الأعطاب التي قد تعترض مسار التنمية وأداء مؤسسات الدولة بصفة عامة.
وبخصوص المساعدات الإنسانية والغذائية التي أرسلها المغرب إلى فلسطين بتوجيهات ملكية، أكد أديمنو أن “هذا الموقف يُجسّد استمرارية النهج الذي يتبناه المغرب في مقاربته لقضية فلسطين وللصراع العربي-الإسرائيلي، وخاصة في ظل ما تشهده غزة اليوم من جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية”، ملفتا أن “موقف المغرب من القضية الفلسطينية يقوم على عدة أبعاد، فإلى جانب البعد التاريخي الداعم لنضال الشعب الفلسطيني، هناك أيضًا بُعد بالغ الأهمية مرتبط برئاسة الملك محمد السادس للجنة القدس، حيث إن هذا الإطار العربي والإسلامي، وفق تعبيره، الذي يتولى فيه الملك قيادة لجنة محورية، جعل المغرب دائم الحضور في صلب الاهتمام الفلسطيني، سواء من خلال دعم مدينة القدس أو الترافع عن القضية الفلسطينية في مختلف المحافل الدولية.
وذكر الأستاذ الجامعي أن “المساعدات التي يبعث بها المغرب اليوم إلى غزة ليست الأولى من نوعها، بل تأتي امتدادًا لمواقف سابقة خاصة في محطات حرجة من هذه الحرب حيث اضطلع المغرب، بقيادة الملك، بدور محوري من بينها المساهمة في فتح معبر كرم أبو سالم، الذي يُستخدم حاليًا لإيصال المساعدات، وفق تعبيره.
وأشار المتحدث ذاته إلى أن “هذه المبادرة الجديدة تأتي في إطار الاستمرارية ذاتها، حيث لا تكتفي المملكة المغربية بالتعبير عن المواقف والمبادئ، بل تنتقل إلى تجسيدها ميدانيًا من خلال تقديم مساعدات إنسانية ملموسة”، مؤكدا أن “هذه الخطوة، التي تأتي في ظرفية إنسانية صعبة يعيشها سكان غزة، تعبّر عن التزام المغرب بقيمه الراسخة ومواقفه الثابتة”.
وتابع: “ففي الوقت الذي يُجمع فيه العالم على رفض سياسة التجويع التي يتعرض لها المدنيون في غزة، لا تزال الآلة الدبلوماسية الدولية عاجزة عن فرض إطار يحمي المدنيين، ويفرض احترام قواعد القانون الدولي الإنساني وميثاق الأمم المتحدة، لا سيما فيما يتعلق بحماية الأطفال والنساء، وهذه المبادرة الملكية تعكس العقيدة الراسخة التي يحملها المغرب تجاه القضية الفلسطينية، وهي عقيدة مبنية على المواقف والمبادئ والمبادرات الميدانية الملموسة، فقد كان المغرب، وما يزال، سبّاقًا إلى مثل هذه المبادرات النوعية والعميقة، التي تؤكد التزامه التاريخي والإنساني تجاه الشعب الفلسطيني”.