آخر الأخبار

العَلَم الوطني .. رمز السيادة والكرامة يواجه خطر الاستهلاك الاستعراضي

شارك

في مرحلة تُعاد فيها صياغة المعاني وفق مقاييس الصورة ووهج المنصة، لم يسلم عَلَمُنا الوطني من موجة التفريغ الرمزي والاستهلاك الاستعراضي. ذاك العَلَم الذي لم يكن مجرد قطعة قماشٍ تُرفع على الساريات، وإنما ثمرة ذاكرة ممتدة، ونتاجا تاريخيا لصيرورة حضارية عاشها الغرب الإسلامي، من الأدارسة المؤسسين إلى العلويين الحافظين لجذوة السيادة الوطنية والروحية، بات اليوم يُختزل في وشاحٍ غنائي، ويُستعمل كإكسسوار في عروض فنية تُحاكي الواجهة وتُفرغ العمق، وصار “فلترا” رقميا يُزين الصور على منصات التواصل دون أن يحمل أيَّ أثر للمعنى الذي وُجد من أجله. لقد تحوّل من حامل لذاكرة أمة إلى عنصر زينة في فرجة تُمعن في إفراغ الرموز من شحنتها التاريخية والسياسية، وتُحوّلُ الوطني إلى مجرد مرئي زائل قابل للتداول السريع، بلا حمولة أو سياق.

في مشهدٍ صار فيه الولاء مؤقتا بقدر زمن اللقطة، رأينا في مهرجانات الصيف – من “موازين” إلى “تيميتار” – فنانين يعتلون المنصات وقد لفّوا العَلَم المغربي على أكتافهم، في مشهد يبدو ظاهريا عرضا في حب الوطن، بينما هو في جوهره عرضٌ مسرحي لحُب الكاميرا وزهْو الواجهة؛ فالفنان الذي لم يُطالع يوما تاريخ الراية المغربية، ولم يتأمل رمزية النجمة الخماسية الخضراء التي تختزن ذاكرة الدولة والروح، هو نفسه الذي يخلط بين العَلَم وبين ديكور كليب صُور على عجل في ملهى ليلي بإسطنبول، ثم يلبسه دون تردد أو وعي، كما لو كان وشاحا عابرا يُستعار للفرجة ويُعاد طيّه مع نهاية الحفل. في هذا الخلط المربك، تتحول الرموز إلى إكسسوارات تُستهلك بلا إدراك، ويُصبح العَلَم، بدل أن يكون عنوانا للسيادة والكرامة، قطعة من ملابس الاستعراض تُصفق لها الجماهير، لا لأنها تفهمها، وإنما لأنها ألفت على التصفيق لكل ما يلمع.

يا للجرأة!

وكأن الوطن، في هذا التوظيف المبتذل، ليس إلا جوقة خلفية تُستحضر لتغطية فراغ الأغنية، وصدى باهتا يُضفي وهما على عمل بلا رُوح. لم يعد الوطن هو النبرة الأصلية التي تُؤسس النشيد، بقدر ما صار زينة صوتية تُضاف في المونتاج الأخير، تماما كما تُضاف مؤثرات الصوت الاصطناعية لإخفاء ضعف الأداء. في هذا الاختزال المهين، يُستعار الوطن لا ليُغنى له؛ لكن ليُستعمل مثل ديكور عاطفي، ثم يُهمل ما إنْ تنطفئ الأضواء.

حين يصبح العَلَم زينة والوطن استعراضا

وما أكثر هؤلاء “الوطنيين الموسميين” الذين يخرجون من سباتهم مع كل تأهل كروي، أو افتتاح رسمي، أو موجة افتخار شعبي تجتاح المنصات. يظهرون فجأة وكأنهم كانوا دوما في الصفوف الأمامية لحب الوطن: يرفرف العَلَم في خلفية كليباتهم، يُطرز على ستراتهم المصممة بعناية، ويتحوّل إلى حجة جاهزة يُدبجون بها سيرهم الفنية، وكأن الوطنية بطاقة اعتماد رمزية يُشهرونها عند الحاجة، دون أن تُحملهم مسؤولية الانتماء.

لكن هناك، بعيدا عن الأضواء والعدسات، في عمق الصحراء، في هدوء الثكنات، وفي برد الفجر على الحدود، جنود يُقبّلون هذا العَلَم وهم رُكع، لا ركوع تملق أو تصنع، وإنما ركوع ولاء وبيعة يومية للتراب الذي لا يُساوم. وهناك مُلوك وقفوا تحت المطر، بلا مظلة، في زيهم الرسمي، لتنكيس الراية حدادا على كبار هذا الوطن، لأنهم يدركون أن الراية شرفٌ يُطوى بحذر ويُرفع بوقار. وهناك من مات وهو يحتضن هذا العَلَم، لأنه آمن أنه ليس لونا ولا قطعة قماش، وإنما تجسيدٌ لكينونة جماعية، لوطن يُعاش، ولا يُستعرض. فهل يُعقل أن يتساوى هذا مع من يلف به عضلاته المبللة بالعرق في حفلة استعراضية؟ أو من يغنيه على إيقاع “التكنو” في سهرة رخيصة مدعومة من شركة اتصالات؟

العَلَمُ ليس مدير أعمال.

العَلَمُ ليس تعويذة لرفع نسبة المشاهدة.

العَلَمُ لا يُوظف لأغراض عرضية أو ترويجية؛ لكن يُحتفى به ويُحترم باعتباره رمزا ساميا للهوية والذاكرة الجماعية. إنه أكثر من مجرد قطعة ثوب ترفرف في الهواء، هو شهادة على تاريخٍ متواصل، وتجسيدٌ لقيم الولاء والسيادة التي تُحفظ بعناية عبر الأجيال؛ توظيفه بشكل سطحي أو مبتذل يُفرغ معناه ويُضعف من مكانته، بينما الاحترام الحقيقي له ينبع من فهم عمقه والتزامنا بحفظ كرامة الوطن الذي يمثله.

نُحب أن نرى الفنانين والرياضيين يُجاهرون بانتمائهم، ويتقاسمون فخرهم بالهوية الوطنية، فذلك في جوهره فعلُ اعترافٍ جميل؛ لكننا لا نستسيغ هذا الفخر حين يُفرغ من محتواه ويُختزل في حركات استعراضية تُحوّل العَلَم من رمز سيادة إلى ملصق عاطفي عابر، يُلصق على الجسد ويُمحى مع أول نزوة دعائية. إن الوطنية ليست زينة تُلبس على المسرح أو في ساحة التتويج، هي بالأحرى علاقة وعي والْتزام، تتجذر في السلوك والمواقف، لا في استغلال لحظة جماهيرية لاقتناص الإعجاب أو مضاعفة المتابعين.

من لم يستطع حمل العَلَم في قلبه، فليتركه على ساريته. فهو أرفع من أن يُستخدم في خاتمة سهرة فنية باهتة.

العَلَمُ بين الاحترام والوظيفة الزائفة

نحن لا نتحدث هنا عن كل الفنانين؛ فالمبدع الحقيقي الوطني الصادق لا يحتاج إلى حمل العَلَم على كتفه ليُثبت انتماءه، لكن من نتحدث عنهم هم هؤلاء “الموسميون” الذين لا يظهر العلم في حياتهم إلا في مواسم الفخر الجماعي: تأهل المنتخب؟ ها هو يخرج إلى الأستوديو ويُسجل أغنية وطنية بلا حس ولا إيقاع. عيد العرش؟ ها هي تنشر صورة لها بـ”قفطان أحمر” والعَلَم يرفرف في الخلفية مع عبارة منسوخة من غوغل: “عاش الوطن”. فشلٌ فني؟ إذن العَلَمُ هو الحل، ضعْهُ على الكتف، قبلْه، وقل: “أنا مغربي حتى النخاع”!

لقد صار العَلَمُ الوطني مثل صندوق الإسعافات الأولية في مسيرة بعض الفنانين: لا يُفتح إلا وقت الحاجة، ولا يُستعمل إلا حين تفقدُ الحُنجرة بريقها، أو تنخفضُ نسبة التفاعل على “فيسبوك”.

هؤلاء لا يكرمُون العَلَم، وإنما يتوسلون به.

ولا يخدمون الوطن؛ بل يستخدمون رموزه للتمويه على خواء خطابهم وضُعف رسالتهم.

من يحتفي بالعلم، ومن يختبئُ خلفه؟

في المغرب، هناك رجال ونساء لا يُقبلون العَلَم؛ لكنهم يُصبحون جزءا منه.

هناك معلمون في قمم الجبال، يُربّون الأطفال على حُب الوطن دون علم ولا ميكروفون.

هناك جنود على الحدود، يحرسون الأرض دون بث مباشر على “تيك توك”.

هناك ملكٌ ينحني للعَلَمِ عند وداع رجال الدولة الكبار، لا بحثا عن تصفيق، وإنما اعترافا بقُدسية الرمز.

فلماذا، إذن، يسعى بعض الفنانين إلى اختزال كل هذه السردية في لقطة رخيصة؟

لسنا دعاة تطهير رمزي، ولا أوصياء على الوطنية؛ لكننا نُذكر فقط بأن العَلَمَ المغربي ليس ملكا لأحد، لا لفنان ولا لرياضي. إنه ملك لكل المغاربة الذين لا يظهرون في الصورة. إنه للذين ماتوا دون أن يعرفوا “الترند”، ولا حملوا هواتف ذكية؛ لكنهم رفعوهُ عاليا حين كان الخطر حقيقيا.

هل أصبح العَلَمُ الوطني مجرد “إكسسوار موسمي” يلبسُه الفنانون فقط حين يشتد موسم الحفلات؟ وهل صار لف العَلَم على الأكتاف في مهرجانات “اللايف” دليل وطنية، أم مجرد تاتو عاطفي يُرسم ثم يُمْحى مع أول غسلة؟ كيف يمكن أن يتحول رمز السيادة والكرامة إلى ديكور فوتوغرافي في فيديو كليب، يُستخدم ليزيد من “الكاريزما” على الشاشة؟ وهل يظن بعض الفنانين أن التفافهُم بالعلم يكفي ليصبحوا “وطنيين محترفين”، أم أن الوطنية تتطلب أكثر من مجرد صورة جميلة في “إنستغرام”؟

في نهاية الحفل، حين يرحل الجمهور وقد نسي معظم ما سمع، يتقدم “الفنان” نحو مقدمة الخشبة، يخرج العَلَم الوطني كما يُخرج الساحر أرنبه الأخير من القبعة، ويلفه حول كتفيه كأنه أنجز للتو ملحمة غنائية كتبتها الذاكرة الجماعية بمداد المجد. لا أحد يسأله: ما علاقة هذا العَلَم بالأداء المُسطح، أو بالكلمات المعلبة التي غناها كما تُغنى وصفات الطبخ في الإعلانات؟ إنه زمن تُستدعى فيه الرموز الكبرى لترقيع الصغائر، ويُستعمل فيه العَلَمُ لا بوصفه راية نضال، وإنما مثل منديل ختامي يُلوح به في نهاية مسرحية لم يُصدق أحدٌ مشاهدها.

من فضلكم، يا سادة، كفى…كفى… اترُكُوا للعَلَمِ حُرْمتهُ.

لنتأمل، وإلى حديث آخر.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا