ينتمي فيلم “عائلة الحكايات” (The Fabemans) إلى فئة الدراما والسيرة الذاتية، وهو عمل سينمائي ذاتي الطابع، ويُعد من أكثر أفلام المخرج ستيفن سبيلبرغ حميمية وصدقًا. ولا يكتفي الفيلم بسرد طفولة المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرغ، بل يتجاوز ذلك ليطرح إشكاليات فلسفية وفكرية تتعلق بالفن، والهوية، والعائلة، والذاكرة، والسلطة الرمزية للسينما. يعيد المخرج من خلال شخصية “سامي فابلمن” تشكيل ملامح نشأته الفنية، ويقدم تأملًا عميقًا في العلاقة المعقدة بين الواقع والخيال، وبين الألم الشخصي والإبداع الفني.
ويطرح الفيلم إشكالية مركزية تتعلق بالتصوير السينمائي كأداة للوعي الذاتي، حيث يتحول التصوير إلى وسيلة لفهم العالم، وتفكيك العلاقات الأسرية، واكتشاف الذات. ولا يستخدم سامي الكاميرا فقط لتوثيق اللحظات، بل ليعيد تشكيلها وفق رؤيته الخاصة، ما يفتح الباب أمام سؤال فلسفي حول حدود الحقيقة في الفن، وهل يمكن للفن أن يكون أكثر صدقًا من الواقع نفسه؟. وتتجلى هده الإشكالية بوضوح عندما يكتشف سامي خيانة والدته من خلال لقطات التخييم، فيتحول الفيلم المنزلي إلى مرآة تكشف ما لا يُقال، وتضعه في مواجهة مع تعقيدات الحب والخيانة والوفاء. كيف ذلك؟.
تتميز سينما ستيفن سبيلبرغ بخصوصية فنية جعلت منها مرجعًا عالميًا في صناعة الأفلام، حيث استطاع أن يمزج بين البعد الإنساني والخيال البصري في سرد قصصه، ما جعله أحد أبرز المخرجين في تاريخ السينما؛ ويتضح من خلال أعماله المتنوعة أن سبيلبرغ لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يسعى إلى خلق تجربة شعورية متكاملة، تجمع بين الدهشة، الحنين، والخوف، وتلامس وجدان المشاهد بشكل مباشر.
من أبرز ملامح سينما سبيلبرغ اهتمامه بالطفولة والبراءة، حيث تتكرر شخصيات الأطفال في أفلامه كرموز للصدق والفضول والقدرة على التغيير. في فيلم E.T. مثلًا الطفل إليوت هو من يقيم علاقة مع الكائن الفضائي، ويقوده إلى التحرر، ما يعكس رؤية سبيلبرغ بأن الأطفال يمتلكون قدرة فطرية على التواصل مع الآخر. ويرتبط هذا الاهتمام بالطفولة أيضًا بتجربة سبيلبرغ الشخصية، إذ عانى من انفصال والديه، وهو ما يظهر في تيمة الأسرة المفككة التي تتكرر في أفلامه، مثل “لقاءات قريبة من النوع الثالث” وفيلم “عائلة الحكايات”.
وتتميز سينما سبيلبرغ من الناحية البصرية باستخدامه المميز للإضاءة واللون، إذ يوظف الضوء كعنصر رمزي يعكس التحول أو الكشف، واستخدامه في فيلم “لائحة شاندلر” Schindler’s List الأبيض والأسود ليعكس قسوة الواقع، بينما تظهر الطفلة ذات المعطف الأحمر كرمز للبراءة المهدورة. كما يعتمد المخرج على ما يُعرف بـ”وجه سبيلبرغ”، وهو لقطة مقربة لوجه الشخصية وهي تحدق بدهشة أو خوف، ما يسمح للمشاهد بأن يعيش اللحظة من الداخل، ويشعر بما يشعر به البطل.
من مميزات أسلوبه الإخراجي أيضًا استخدامه الحركة المدفوعة بالكاميرا، إذ لا تتحرك الكاميرا عبثًا، بل تتبع حركة الشخصيات أو تكشف عن تفاصيل مهمة في المشهد؛ وتمنح هذه التقنية أفلامه ديناميكية خاصة، وتخلق شعورًا بالانغماس في الحدث. كما يفضل سبيلبرغ اللقطات الطويلة غير المقطوعة، التي تسمح بتطور المشهد بشكل طبيعي، وتمنح الممثلين مساحة للتعبير.
ويميل سبيلبرغ على مستوى السرد الفيلمي إلى تقديم شخصيات عادية تواجه ظروفًا استثنائية، ما يجعل قصصه قريبة من الجمهور. في فيلم Jaws، “الفك المفترس”، مثلًا، الشرطي برودي ليس بطلًا خارقًا، بل رجل عادي يواجه خطرًا غير متوقع. ويعكس هذا النمط فلسفة سبيلبرغ في أن البطولة يمكن أن تنبع من المواقف اليومية، وأن الإنسان قادر على تجاوز الخوف إذا واجهه بشجاعة.
وتلعب الموسيقى دورا محوريا سينما سبيلبرغ، خاصة من خلال تعاونه الطويل مع المؤلف الموسيقي جون ويليامز؛ ولا تكتفي الألحان في أفلامه بمرافقة الصورة، بل تضيف لها بعدًا شعوريًا، وتصبح جزءًا من هوية الفيلم. في فيلم لحن E.T. أو Jurassic Park مثلًا أصبحا رمزين ثقافيين يتجاوزان الفيلم نفسه.
وتحمل سينما سبيلبرغ أيضا طابعًا إنسانيًا عميقًا، حيث لا يكتفي بعرض الأحداث، بل يسعى إلى طرح أسئلة أخلاقية وفلسفية. ويناقش المخرج في فيلم “ميونيخ”، قضية الانتقام والعدالة، ويتناول فيلم The post حرية الصحافة ومسؤولية السلطة؛ وتمنح هذه الأبعاد الفكرية أفلامه عمقًا يتجاوز الترفيه، وتجعل منها أدوات للتأمل والنقاش.
في المجمل سينما ستيفن سبيلبرغ هي مزيج فريد من التقنية العالية والحس الإنساني والخيال البصري، وهي قادرة على أن تأسر المشاهد وتدفعه إلى التفكير، ما يجعلها تجربة سينمائية متكاملة لا تُنسى.
يعالج فيلم “حكايات عائلية” فكرة السلطة الأبوية، حيث يتصارع سامي اليافع بين نموذجين متناقضين: الأب العقلاني المهندس الذي يرى في السينما مجرد هواية، والأم الفنانة الحالمة التي تؤمن بأن الفن هو تعبير عن الذات. ويعكس هذا الصراع التوتر بين العقل والعاطفة، بين النظام والحرية، ويطرح سؤالًا حول من يملك الحق في توجيه حياة الطفل؟ وهل يجب على الفرد أن يتبع شغفه أم يرضخ لتوقعات الأسرة؟. وتتقاطع هذه الإشكالية مع فكرة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه حول الإرادة الحرة، حيث يدعو الإنسان إلى تجاوز القيود الاجتماعية والسعي نحو تحقيق ذاته الأصيلة.
ويجمع الفيلم بين السيرة الذاتية والدراما النفسية، لكنه يتجاوز التصنيف التقليدي ليصبح ما يُعرف بـ”الميتافيلم”، أي فيلم عن صناعة الأفلام. ولا يروي المخرج قصته فقط، بل يروي كيف أصبحت القصة نفسها ممكنة من خلال السينما. وفي هذا السياق تتحول الكاميرا إلى شخصية فاعلة، وتصبح اللقطة السينمائية أداة فلسفية لفهم الحياة. ويستخدم الفيلم تقنيات سردية مثل التداخل بين الواقع والخيال، واستحضار الذاكرة، والتلاعب بالزمن، ما يمنحه طابعًا تأمليًا يتجاوز السرد الخطي.
ويرتكز المخرج على خلفيات فكرية متعددة؛ أولًا هناك تأثير واضح للفكر التحليلي الفرويدي، خاصة في العلاقة بين سامي ووالدته، حيث تتجلى عقدة أوديب بشكل رمزي. وتمثل الأم الرغبة والحرية، بينما يمثل الأب النظام والمنطق، ويجد الطفل نفسه ممزقًا بينهما. ثانيًا هناك حضور لفلسفة الفن عند والتر بنيامين، الذي يرى أن إعادة إنتاج الصورة تمنحها سلطة جديدة، وهذا ما يفعله سامي حين يعيد تصوير لحظات حياته ليمنحها معنى مختلفًا. ثالثًا يتجلى تأثير جون فورد، المخرج الأسطوري، في المشهد الأخير حين ينصح سامي بأن يضع الأفق في أعلى أو أسفل الصورة، لا في المنتصف، وهي نصيحة تحمل دلالة رمزية حول كيفية رؤية العالم: إما من منظور متعالٍ أو من منظور متواضع، لكن لا من موقع محايد.
يتجاوز فيلم “حكاية عائلية” سرد سيرة ذاتية، بل هو تأمل فلسفي في معنى الفن، وفي قدرة السينما على تحويل الألم إلى جمال، والذاكرة إلى سرد، والطفولة إلى أسطورة. ولا يقدم المخرج نفسه كضحية، بل كفنان قادر على تحويل هشاشته إلى قوة، وطفولته إلى مصدر إلهام. الفيلم هو دعوة إلى التصالح مع الماضي ومع الذات، وللإيمان بأن الفن يمكن أن يكون وسيلة للشفاء، وللتحرر، ولإعادة تشكيل العالم وفق رؤيتنا الخاصة.
فيلم The Fabelmans (سنة 2022/ المدة 151 دقيقة) هو عمل سينمائي ذاتي الطابع من إخراج ستيفن سبيلبرغ، يروي فيه قصة نشأته الفنية والعائلية من خلال شخصية “سامي فابلمن”، الفتى الذي يكتشف شغفه بالسينما وسط عائلة يطغى عليها التوتر بين العقلانية الفنية والعاطفة الإنسانية. ولا يكتفي الفيلم بسرد الأحداث، بل يغوص في أعماق الشخصيات ويطرح أفكارًا فلسفية حول الفن، الهوية، والحرية الشخصية، ويستعرض كيف يمكن للكاميرا أن تكون أداة لفهم الذات وتفكيك الواقع.
يمثل سامي الشخصية المحورية في الفيلم، وهو نسخة شبه واقعية من سبيلبرغ نفسه. سامي طفل حساس، يكتشف قوة الصورة السينمائية عندما يشاهد فيلمًا لأول مرة، ويبدأ إعادة تمثيل المشاهد باستخدام قطار ألعاب وكاميرا منزلية. وتكشف هذه اللحظة التأسيسية عن فكرة مركزية في الفيلم، وهي أن الفن ليس مجرد وسيلة للتسلية، بل هو وسيلة لفهم العالم. يقول سامي في أحد المشاهد: “أشعر بأن حياتي تمر بسرعة، لكنها لا تصل إلى أي مكان”، وهو تعبير عن الحيرة الوجودية التي يعيشها الفنان في بداياته.
أما شخصية الأم “ميتزي فابلمن”، التي تؤديها ميشيل ويليامز، هي شخصية معقدة ومليئة بالتناقضات. ميتزي فنانة وعازفة بيانو، تعيش بين رغبتها في الحرية وحبها لعائلتها؛ تقول في أحد المشاهد المؤثرة: “أفعل شيئًا لا أعرف إن كان صحيحًا، لكنه بالنسبة لي مسألة حياة أو موت”، في إشارة إلى علاقتها العاطفية خارج الزواج. ويلخص هذه الاقتباس الصراع الداخلي الذي تعيشه، وتطرح سؤالًا حول مدى شرعية التضحية من أجل الذات في مقابل الالتزام الأسري. وتمثل ميتزي الجانب العاطفي والفني في الأسرة، وتقول لسامي/ “افعل ما يمليه عليك قلبك، لأنك لا تدين لأحد بحياتك، حتى أنا”، وهي من أكثر العبارات تأثيرًا في الفيلم، لأنها تمنحه الشرعية لمتابعة حلمه رغم التحديات.
ويجسد بول دانو دور الأب “بيرت فابلمن”، ويمثل الجانب العقلاني والتقني؛ وهو مهندس ناجح، لكنه لا يرى في السينما سوى هواية، يقول لسامي: “لا يكفي أن تحب شيئًا، عليك أن تعتني به”، وهي عبارة تعكس فلسفة الحياة التي يؤمن بها، وتتناقض مع رؤية ميتزي؛ فهو شخصية هادئة، لكنه يعاني من عدم قدرته على فهم زوجته وابنه، ويقول في لحظة مؤثرة: “لن نتوقف أبدًا عن معرفة بعضنا”، في محاولة للتشبث بالعلاقة رغم الانهيار.
ومن الشخصيات الثانوية المؤثرة “العم بوريس”، الذي يظهر في مشهد واحد لكنه يترك أثرًا عميقًا، حيث يقول لسامي: “الفن سيمنحك تيجانًا في السماء وأكاليل على الأرض، لكنه سيمزق قلبك ويتركك وحيدًا”، وهي عبارة تلخص الثمن الذي يدفعه الفنان مقابل شغفه. ويحذر العم بوريس الطفل سامي من أن الفن ليس لعبة، بل هو خطر يشبه وضع الرأس في فم الأسد، ويضيف: “العائلة والفن سيمزقانك إلى نصفين”، في إشارة إلى التوتر الدائم بين الالتزام الأسري والحرية الإبداعية.
ويطرح الفيلم أيضًا فكرة أن السينما يمكن أن تكشف ما لا يُقال، كما حدث عندما اكتشف سامي خيانة والدته من خلال لقطات التخييم. وتؤكد هذه اللحظة أن الكاميرا ليست مجرد أداة تسجيل، بل هي مرآة تكشف الحقيقة، حتى لو كانت مؤلمة. ولا يواجه سامي والدته مباشرة، لكنه يعرض عليها الفيلم، فتقول له: “الذنب شعور لا جدوى منه”، وهي عبارة تعكس فلسفة ميتزي في التعامل مع الألم.
في المشهد الأخير يلتقي سامي بالمخرج الأسطوري “جون فورد”، الذي يعطيه نصيحة بسيطة لكنها عميقة: “عندما يكون الأفق في الأعلى أو الأسفل يكون المشهد مثيرًا، لكن عندما يكون في المنتصف يكون مملًا”، وهي عبارة تحمل دلالة رمزية حول كيفية رؤية العالم، وتلخص فلسفة الإخراج السينمائي.
فيلم The Fabelmans هو أكثر من مجرد سيرة ذاتية، إنه تأمل في معنى الفن، وفي قدرة السينما على تحويل الألم إلى جمال، والذاكرة إلى سرد، والطفولة إلى أسطورة. وتجسد الشخصيات أفكارا وصراعات داخلية، وكل عبارة تنطق بها تحمل وزنًا فلسفيًا يعكس عمق التجربة الإنسانية.
ينسج فيلم “حكايات عائلية” خيوطًا نفسية واجتماعية وسياسية وجمالية في سرد متماسك يعكس رحلة فنية وإنسانية عميقة. من خلال شخصية سامي فابلمن يعيد سبيلبرغ تشكيل طفولته ومراهقته، ويطرح أسئلة وجودية حول الفن، العائلة، الهوية، والسلطة الرمزية للصورة.
ويتجلى البعد الاجتماعي للفيلم من خلال تصوير الأسرة الأمريكية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حيث تعيش عائلة فابلمن في بيئة برجوازية يهيمن عليها النموذج الأبوي التقليدي.
الأب بيرت فابلمن هو مهندس ناجح، يمثل العقلانية والنظام، بينما الأم ميتزي فنانة حالمة تعاني من قمع طموحاتها الفنية. وينعكس هذا التوتر بين الأدوار الاجتماعية في قول بيرت لابنه سامي: “الهواية شيء جميل، لكن لا يمكن أن تبني عليها حياتك”، في حين تقول ميتزي: “افعل ما يمليه عليك قلبك، لأنك لا تدين لأحد بحياتك، حتى أنا”. هذه العبارات تكشف عن صراع بين التقاليد والتحرر، بين الواجب الاجتماعي والرغبة الفردية.
ويظهر البعد السياسي بشكل غير مباشر من خلال تصوير الهويات الثقافية والدينية، خاصة الهوية اليهودية التي يحملها سامي، حيث يتعرض في المدرسة الثانوية لمواقف معادية للسامية، ويُنظر إليه كغريب رغم كونه أمريكيًا. في أحد المشاهد يقول له أحد الطلاب: “أنت لا تنتمي إلى هنا”، ما يعكس التوترات العرقية والدينية في المجتمع الأمريكي. ولا يعالج الفيلم السياسة بشكل مباشر، لكنه يطرح تساؤلات حول الانتماء والهوية، ويعكس كيف يمكن للفن أن يكون وسيلة للمقاومة والتعبير عن الذات في وجه التهميش.
ويستعرض المخرج سبيلبرغ تأثير الطفولة والعلاقات الأسرية على التكوين النفسي للفنان في أبعاده النفسية، حيث يعيش سامي صدمة اكتشاف خيانة والدته من خلال لقطات صورها بنفسه، ويقول في لحظة مؤلمة: “لم أكن أريد أن أعرف، لكن الكاميرا لا تكذب”. وهذه العبارة تلخص العلاقة المعقدة بين الحقيقة والفن، بين الإدراك والإنكار. ويعالج الفيلم أيضًا عقدة أوديب بشكل رمزي، حيث يجد سامي نفسه ممزقًا بين حب والدته وإعجابه بها، وبين احترامه لوالده الذي لا يفهم شغفه بالسينما. العم بوريس، الذي يظهر في مشهد واحد لكنه يترك أثرًا عميقًا، يقول له:
“الفن سيمنحك تيجانًا في السماء، لكنه سيمزق قلبك”، في إشارة إلى الثمن النفسي الذي يدفعه الفنان مقابل شغفه.
ويتجلى البعد الرمزي في الفيلم في استخدام الكاميرا كأداة للوعي والتحرر. وليست الكاميرا مجرد وسيلة تسجيل، بل هي مرآة تكشف الحقيقة وتعيد تشكيل الواقع. في أحد المشاهد يرى سامي نفسه في المرآة وهو يصور لحظة انهيار عائلته، وكأن الفن أصبح وسيلته لفهم الألم والتعامل معه. ويلتقي سامي في المشهد الأخير بالمخرج الأسطوري جون فورد، يحمل دلالة رمزية عميقة وهو مشهد احتفاء بالسينما وبعظمة هذا المخرج.
وعلى المستوى الجمالي والبصري يستخدم سبيلبرغ تقنيات تصوير متقدمة تعكس تطور نظرة سامي الفنية. ويضفي التصوير السينمائي لجانوش كامينسكي على الفيلم طابعًا حميميًا، حيث تتداخل الإضاءة الطبيعية مع الإضاءة الرمزية لتخلق مشاهد مليئة بالعاطفة. وفي مشهد الرقص الليلي للأم أمام النار تتحول ميتزي إلى كائن شبه أسطوري، مضاء بضوء الكاميرا، وتقول إحدى بناتها: “أمي تبدو وكأنها تطير”، في تعبير عن الجمال الممزوج بالغموض. ويوظف الفيلم الألوان والظلال بطريقة تعكس الحالة النفسية للشخصيات، ويستخدم اللقطات المقربة لإبراز التفاصيل الدقيقة في تعابير الوجه، ما يعزز البعد الإنساني للسرد الفيلمي.
ويستعرض الفيلم أيضا جماليات السينما نفسها، من خلال مشاهد تصوير أفلام الهواة التي يصنعها سامي، التي تعكس شغفه بالتقنية والسرد البصري. في أحد المشاهد يقول سامي لأحد الممثلين: “لا تمثل، فقط عش اللحظة”، وهي عبارة تلخص فلسفة سبيلبرغ في الإخراج، حيث يسعى إلى خلق لحظات صادقة تتجاوز التمثيل التقليدي.
ويجمع الفيلم بين الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية والجمالية في سرد عميق ومؤثر في عمل متكامل، إنه ليس مجرد قصة عن مخرج شهير، بل هو تأمل في معنى الفن، وفي قدرة السينما على تحويل الألم إلى جمال، وإلى تحويل هشاشته إلى قوة، وطفولته إلى مصدر إلهام، ويمنحنا نحن المشاهدين فرصة لرؤية العالم من خلال عدسة الكاميرا، حيث كل لقطة تحمل معنى، وكل صورة تروي قصة.
ينتهي فيلم The Fabelmans بلحظة رمزية تختزل رحلة سامي فابلمن من طفل حالم إلى فنان يخطو أولى خطواته في عالم السينما. وبعد سنوات من الصراع الداخلي، والانكسارات العائلية، والاكتشافات المؤلمة، يجد سامي نفسه في استوديوهات هوليوود، على أعتاب مستقبل جديد، حيث يلتقي بالمخرج الأسطوري جون فورد الذي يمنحه نصيحة بسيطة لكنها تحمل دلالة عميقة حول كيفية رؤية العالم من خلال الكاميرا. وهذه اللحظة لا تمثل فقط بداية مسيرته المهنية، بل هي إعلان عن تحرره من قيود الماضي، وتصالحه مع ذاته، واختياره الفن كوسيلة لفهم الحياة وإعادة تشكيلها.
لا تقدم نهاية الفيلم إجابات نهائية، بل تترك المشاهد أمام سؤال مفتوح: هل يمكن للسينما أن تكون ملاذًا؟ هل يمكن للصورة أن تشفي ما لم تستطع الكلمات أن تداويه؟ لا يجيب سامي، لكنه يمضي قدمًا، بابتسامة خفيفة ونظرة واثقة، وكأن العالم بأسره أصبح قابلاً للتصوير، وقابلاً للفهم وأن الكاميرا لا تكذب على لسان بطل الفيلم.