تشهد صناعة السينما تحولات جذرية وغير مسبوقة، وترتبط التحولات المذكورة بقوة الرقمية، وبالانتشار المتسارع للذكاء الاصطناعي، وبتغير الأنماط السلوكية والإدراكية الثقافية والاجتماعية في جميع أنحاء العالم المنتج للصناعة السينمائية والمسوق لها خاصة. ترتبط التحولات المذكورة أيضا بالتغير المذهل الذي يلحق بأشكال التواصل الجماهيري والحق في التعبير وترويج “الرأي” وصناعة المحتويات، وبتغير مفهوم النخب والعامة واتساع كبير في رقعة ممارسة الحق في الكلام ومخاطبة الناس ومعايير ذلك. لم يعد مستقبل السينما مجرد مسألة تتعلق بتطور التقنيات المستخدمة في الإنتاج والعرض؛ بل أصبح مرتبطا بشكل وثيق بالقوة الاقتصادية والإعلامية والتكنولوجية للدول، وفي إنتاج وتوزيع المحتويات الثقافية والفنية، حيث تعتبر هذه الصناعات مساحات وفضاءات للتنمية وللتعبئة والأدلجة، وللحرب والتنافس والصراع العالمي بكل أشكاله. وواضح، علاوة على ما سبق، تأثير هذه القوة على التنوع الثقافي في المشهد السينمائي العالمي أيضا.
في هذا السياق العام نتناول بالتحليل قضايا شائكة تتحكم في تحولات مستقبل السينما؛ وعلى رأسها الرقمية والذكاء الاصطناعي وتراجع دور حوامل أصيلة في الترويج الثقافي والفكري والفني المؤسِّس كالكتاب والمسرح، مقابل صعود غير مسبوق وبزخم وتسارعٍ هائل، لصناعات الهجانة والرداءة والسطحية والتسطيح، كأغلبية محتويات اليوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي، مع تسجيل وجود مضامين تحليلية ونقدية ناضجة إلى حد ما؛ لكنها لا تمثل سوى نسبة لا تكاد تذكر، ناهيك عن انتشارها الضعيف جدا، مقارنة بالمحتويات الفارغة التي تتيح التعبير والتنفيس عن الآني من معاناة أجيال جديدة قصيرة النفس.
أحدثت الرقمية ثورة شاملة في جميع مراحل صناعة السينما، بدءا من الإنتاج وصيغه والتصوير وتقنياته الرقمية. خفضت الرقمية التكاليف وفتحت الباب أمام صناع الأفلام المستقلين لتصوير أفلامهم، مرورا بتسهيل المونتاج والتمكين من المؤثرات البصرية والصوتية التي تطورت بشكل مذهل؛ وذلك بفضل البرمجيات الرقمية، وصولا إلى التوزيع والعرض عبر منصات البث الرقمي التي غيّرت جذريا طريقة إرسال واستقبال الأفلام وترويجها وعرضها واستهلاك الجمهور لها.
لقد كسرت منصات البث الرقمي احتكار دور العرض السينمائي التقليدية، ووفرت للمشاهدين خيارات غير محدودة من الأفلام والمسلسلات في أي زمان ومكان؛ لكن ثمن هذا التقدم والتسهيل في الإنجاز كان على حساب الجودة والإبداع وطبيعة الدور القيادي، فكريا وجماليا وإيديولوجيا، الذي حملته السينما عالميا لعقود.
خلق هذا التحول الرقمي في صناعة السينما فرصا هائلة لوصول الأفلام إلى جمهور أوسع؛ ولكنه، وفي الوقت نفسه، فرض تحديات كبيرة على دور العرض التي تسعى جاهدة إلى التكيف مع هذه المنافسة المتزايدة، بتقليص حجمها وبتوسيع وظائفها وبتغيير آليات وطرائق تواصلها وتسويقها..
يندمج الذكاء الاصطناعي بقوة في نسيج صناعة السينما، حاملا معه إمكانيات هائلة في مجالات الصناعة السينمائية المتعددة. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في كتابة السيناريوهات، باقتراح ملامح للشخصيات ومسارات للأحداث وخطاطات للسرد الفيلمي. ويمكن للذكاء الاصطناعي أيضا التدخل في تطوير وتوسيع أنواع ووظائف المؤثرات البصرية، وتسريع عمليات وإغناء المونتاج، بل ويمكنه حتى إنشاء شخصيات رقمية واقعية. كما يمكن استخدامه في تحليل بيانات الجمهور لتحديد الاتجاهات وتوقع النجاح التجاري للأفلام.
على الرغم من هذه الإمكانيات الواعدة، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في السينما يثير مخاوف بشأن مستقبل التشغيل في الصناعة السينمائية، واحتمالية تراجع الإبداع البشري والأصالة الفنية، لفائدة سرعة إنجاز وحذق تقني “روبوتيكي” لا روح فيه. ويبقى السؤال مفتوحا حول كيفية تحقيق التوازن بين الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي من جهة، والحفاظ على جوهر العمل السينمائي كفن إنساني نبيل مسل بقدر ما هو مثقف ومربٍّ، وفاتحٍ لفضاءاته الخاصة في وجه حوار الأجيال والمغارف والجماليات والآداب والعلوم، فالسينما تحمل هم الوجود الكوني للإنسان بامتياز، على الرغم من تقزيم شباك التذاكر بمعناه العمِّي لدورها ووظيفيتها، تحت يافطة المردودية والانتشار الجماهيري.
يشهد العالم تحولا في الأنماط الثقافية من حيث الإنتاج والاستهلاك والترويج، حيث يتراجع الاهتمام بالقراءة ويتزايد الاعتماد على الوسائط المرئية والرقمية. كما أن تجربة الفرجة الجماعية في دور السينما تواجه تحديات بسبب تغير أنماط الترفيه وتوفر خيارات المشاهدة الفردية، عبر الأجهزة الذكية في كل الازمنة والأمكنة والأوضاع الممكنة. هنا فقدت الفرجة السينمائية الكثير:
الدهشة أمام الشاشة الكبرى وعتمة القاعة التي تتيح التماهي العميق والتساؤل السقراطي الوجودي والتذوق الجمالي الكانطي أو الفرانكفورتي – نسبة لمدرسة فرانكفورت – الملتزم.
يؤثر هذا التحول في البنيات الثقافية والفنية والتواصلية الجماهيرية على صناعة السينما من عدة جوانب. فقد أدى إلى تراجع الاهتمام بالأفلام التي تتطلب تركيزا عميقا وتفكيرا نقديا وتفاعلا جماليا معرفي الأساس، لصالح الأفلام ذات الإيقاع السريع والمحتوى الترفيهي الخفيف، وقد تم الترويج أكثر للكوميديا والرعب والإثارة الغريزية، على حساب الدراما الذكية والصيغ السينمائية الإبداعية، التي تُسائل الوجود والجمال والحرية ومسارات الإنسانية عبر التاريخ ومحطاته الكبرى، وفي امتدادات المستقبل وتوقعات الخيال العلمي، في ظل التطور الجيوسياسي والتكنولوجي وسحقه لقيم السلم والحب والأسرة والروحانيات إلخ. كما أن تراجع تجربة الفرجة الجماعية قد أثرت على الجانب الاجتماعي والثقافي للسينما كحدث يجمع الناس ويخلق نقاشا وتفاعلا حول القضايا المطروحة وطنيا ودوليا وسياسيا وعاطفيا…
تلعب قوة الدول الاقتصادية والسياسية دورا حاسما في تحديد ملامح مستقبل السينما. تستطيع الدول التي تمتلك صناعات سينمائية قوية وموارد مالية ضخمة إنتاج أفلام ذكية وتنافسية بمستواها العالي في التقنية والسرد، ولو بدون ميزانيات كبيرة وبتقنيات ليست بالضرورة جد متقدمة، تستطيع، عوض ذلك، الترويج لها وتوزيعها على نطاق عالمي واسع.
تستفيد هذه الدول من نفوذها الثقافي لفرض رؤيتها وقِيمها من خلال الأفلام التي تنتجها والتي تعتبر سلاحا قويا في دعم صورتها ونشر ثقافتها ومواقفها وطرق العيش فيها؛ وهو ما يدعم هيمنة ثقافية قائمة بالفعل، ويهمش أصواتا وقصصا قادمة من دول ومجتمعات وثقافات ذات قدرات إنتاجية وتوزيعية أضعف.
تتميز دول العالم، كما هو معلوم، بتنوع ثقافي هائل على الرغم من هيمنة ثقافات العولمة الشمولية المسيطرة، وعلى الرغم من ذلك، فقد سمحت التكنولوجيات التواصلية الجماهيرية الحديثة بكسر هذا الاحتكار نسبيا على الأقل في توفير المعلومة – المعلومة المغلوطة والمضللة في الغالب – والمنتوج الثقافي والفني السينمائي الذي فتح المجال نسبيا أمام كل ثقافة بخصوصياتها وبقصصها وبتراثها – مع الاحتياط من الانتشار المريع للسطحية والتشويه التهجين الرديء غير الفعّال ولا المنتج. ومع ذلك، يواجه التنوع الثقافي الإنساني تحديات كبيرة في المشهد السينمائي العالمي الذي تهيمن عليه إلى حد كبير الإنتاجات القادمة من الدول القوية إنتاجا وتوزيعا ومراكزه معروفة ومتكاملة تمثل الغرب بالأساس.
قد تجد الأفلام التي تعكس ثقافات مختلفة صعوبة في الحصول على التمويل والتوزيع المناسبين، وقد يتم تهميشها أو اختزالها في قوالب نمطية تخدم أهدافا الثقافات العابرة والمُهيمنة، لتلبية توقعات الجمهور الغربي ولخدمة صور نمطية بناها استعمار تقليدي وطورها اليوم بأساليب أكثر ذكاء واختباء. ولعل ذلك واضح في التمويلات التي ترصدها عدد من الدول الغربية لأفلام الدول الإفريقية واللاتينية والآسيوية على الرغم من نكران المستفيدين والممولين لذلك.
يهدد هذا الوضع، كما رأينا، بإضعاف التنوع الثقافي في السينما وحرمان الجمهور العالمي من التعرف على قصص ورؤى مختلفة عن تلك التي تروج لها سينما الأقوياء.
في ظل هذه المتغيرات المعقدة، يمكن طرح سيناريوهات عديدة متعددة لمستقبل السينما:
قد تستمر منصات البث الرقمي في النمو وتعزيز سيطرتها على سوق توزيع الأفلام؛ مما يمنحها قوة كبيرة في تحديد أنواع الأفلام التي يتم إنتاجها وتسويقها، وخاصة مع دراسة الخوارزميات لنمطية الاختيارات والأكثر رواجا لأهداف تجارية ربحية أساس. قد يؤدي هذا الأمر إلى تراجع دور السينما التقليدية، وهناك تراجع عالمي بالفعل، كما قد يؤدي إلى تهميش الأفلام التي لا تتناسب مع خوارزميات هذه المنصات وتفضيلات جمهورها. ذلك هو الرهان الأخطر؛ لكن ظهور وظائف جديدة من صنف آخر قد يخفف من أزمة البطالة في الصناعة السينمائية، بسبب توظيف يتسارع ويتسع للذكاء الاصطناعي في صناعة الفيلم. ويتعلق الأمر بعنصرين اثنين:
ـ أولهما عدم قدرة الذكاء الاصطناعي على التأليف الإبداعي بالمعنى الجمالي الفلسفي القيمي لدى الإنسان، والمقصود إنجاز تركيبٍ يتجاوز الإنتاجات والتوليفات الخوارزمية لملايين – بل بلايين – النصوص التي تطعم بها ذاكرته، إذ تظل تركيبات الذكاء الاصطناعي رياضية وإحصائية لا روح فيها، تفتقد إلى ما لا يمكن توقعه أو استنتاجه، ناهيك عن البعد الروحي والانفعالي والوجداني الذي، إذا سايرنا أكبر المتشائمين من بلوغ الذكاء الاصطناعي مستوى الإنسان في “التفكير”، لن يتمكن منه الذكاء الاصطناعي وإلا فسيضاهي العلم البشري الذي يركب هذا الذكاء القدرة الإلهية!
ـ ثانيهما أن تدبير وتسيير وتركيب وتصويب وتدقيق ومعالجة وتطعيم وصيانة وقيادة الذكاء الاصطناعي ستظل في كل الحالات تحت تأطير بشر مؤهل تأهيلا ملائما؛ وهو ما خلق وسيبلور أكثر مستقبلا جيلا جديدا من التقنيين والمهندسين والباحثين والعلماء الذي سيتطلب اشتغالهم وظائف جديدة ومتجددة.
ينسجم توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل تام إذا مع جل مراحل صناعة الفيلم السينمائي؛ وهو ما يؤدي إلى زيادة الكفاءة وخفض التكاليف، ولكنه قد يهدد الوظائف الإبداعية ويقلل من الأصالة الفنية.
مقابل ما سبق قد تشهد الإنسانية ميلاد أفلامٍ يتم إنتاجها بالكامل أو بشكل كبير بواسطة الذكاء الاصطناعي. ولعل ذلك ما نرى إرهاصاته الواضحة منذ عقود. يثير تطور مماثل يحصل بالفعل تساؤلات إشكالية حول مفهوم “المؤلف” ودور الفنان المبدع.
تنجح جهود صناع الأفلام والمؤسسات الثقافية في تعزيز التنوع في المشهد السينمائي العالمي. ويتم ذلك من خلال دعم الإنتاجات المستقلة والقادمة من ثقافات مختلفة، وتوفير منصات عرض بديلة لمن لا يستطيعون توزيع وترويج أفلامهم على شبكات ومنصات القوى السينمائية المهيمنة. بالإضافة لذلك تشجيع الحوار بين الثقافات. في هذا السيناريو، يصبح الجمهور أكثر انفتاحا على القصص والرؤى المختلفة، وتزدهر السينما كتعبير عن التعددية الثقافية العالمية. وتصبح السينما أقوى وأكثر نجاعة في دعم قيم التقريب بين الشعوب والثقافات والخلافات العالمية، بترويجها لقصص وحكايات وسيناريوهات التسامح والحوار والتواصل والتبادل والتكامل بين ثقافات العالم.
سعى الإنسان، من خلال الفن والفكر والفلسفة ومن خلال سياسييه المُلهَمين والمُلهِمين، منذ القدم، نحو التوازن والتكامل في العلاقات الدولية؛ غير أن طبيعة النزوع نحو الهيمنة وبناء رخاءٍ سهلٍ على حساب الضعيف، الذي لا يمكنه الحصول على حقه دون انتزاعه، صعَّب تاريخيا من تحقيق هاته الغاية النبيلة والمثالية. حتى المنظمات الدولية التي أنشأها الغرب بعد دماره بحربيه الكونيتين، إنما صُممت على مقاس مصالحه الخاصة.
يتم تحقيق توازن بين التطور التكنولوجي والحفاظ على الجوهر الإنساني للفن السينمائي، باستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للإبداع البشري وليس كبديل له. هكذا، يمكن أن تتعاون منصات البث الرقمي الحديثة مع دور العرض التقليدية لإثراء تجربة المُشاهدة الإنسانية، واستلهام صيغها الجمالية وحكيها الجذاب لخدمة الإنسانية وحمايتها ما أمكن ذلك من الثمن الباهظ للتقدم التكنولوجي وهيمنة التكنوقراط. يتم دعم التنوع الثقافي وتقوية مضامينه وتوسيع مساحات انتشاره بين الشعوب والفئات الاجتماعية، من خلال سن سياسات وبرامج متنوعة وذكية، تهدف إلى تمكين صناع الأفلام من مختلف الخلفيات الثقافية والجغرافية، وتقديم أعمالهم لجمهور عالمي بما يلائم من قواعد التنشيط والتقديم والتأطير.
يواجه مستقبل السينما تحديات كبيرة لا تتعلق ببقائها من عدمه، بقدر ما تتعلق بتحدي استمراريّتها وقد فقدت روحها الإبداعية، والتصاقها الطبيعي بالقيم الكونية النبيلة، وبالأصوات الحرة النقدية وبالتساؤلات الفلسفية حول الفرد والمجتمع، الماضي والمستقبل، الولادة والمصير الإنسانيين، بما في ذلك الحفاظ على التنوع الثقافي في وجه الهيمنة والإقطاعية الاقتصاد الرقمي، وضمان الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للذكاء الاصطناعي، والتكيف مع تغير الأنماط الثقافية والاجتماعية.
يحمل المستقبل للسينما في الوقت نفسه، إلى جانب التطور التكنولوجي المذهل، يحمل فُرصا هائلة للابتكار وللإبداع، وتوسيع نطاق الوصول إلى الجمهور، وتقديم قصص ورؤى جديدة لم تكن مُمكنة من قبل.
ليس المستقبل السينمائي قدرا محتوما؛ بل هو نتاج تفاعل معقد بين التكنولوجيا والثقافة والاقتصاد والسياسة. يتطلب ضمان مستقبل مزدهر ومتنوع للسينما، من جهة الجمال القيمي والطابع الإنساني الأصيل، تضافر جهود صناع الأفلام والمؤسسات الثقافية وصناع السياسات والجماهير السينيفيلية، من أجل دعم الأصوات السينمائية المستقلة في المقاربة والرأي والإخراج أساسا، لتبقى الصناعة السينمائية في جزء مؤثر منها على الأقل صناعة مُستمرةُ الإنسانيةِ في سياق تعزيز التنوع الثقافي وتشجيع التبادل والحوار بين الثقافات والاستفادة من التكنولوجيا بطريقة تخدم الفن والإنسانية.
إن القدرة على تكيف السينمائيين والمقررين في مجال صناعة السينما مع المتغيرات المتسارعة واحتضان التنوع وحمايته انطلاقا مما هو قطري ووطني أولا ستكون، بالتأكيد، مفتاحا لازدهار السينما في المستقبل.