آخر الأخبار

لكريني: فجوة الفوارق المجالية تُعيق التنمية وتُخلّ بالتوزيع العادل للثروات

شارك

في سياق يتّسم بتزايد الحاجة إلى العدالة الاجتماعية والمجالية كركيزتين لأي نموذج تنموي فعّال، يسلّط الدكتور إدريس لكريني، مدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات بكلية الحقوق بمراكش، الضوء على أهمية العدالة المجالية باعتبارها حجر الزاوية في تقليص الفوارق الجهوية وتعزيز التنمية المستدامة.

من خلال قراءة نقدية وتحليلية، يُبرز الكاتب كيف أنّ التفاوتات البنيوية التي راكمها تاريخ الاستعمار والاختيارات التنموية غير المتكافئة، لا تزال تُلقي بظلالها على التوازن المجالي، على الرغم من الجهود المبذولة في إطار الجهوية الموسعة وصناديق التأهيل الاجتماعي والتضامن بين الجهات.

يقدّم المقال مقاربة علمية دقيقة تربط بين متطلبات العدالة المجالية واستحقاقات النموذج التنموي الجديد، في ضوء مقتضيات الدستور والتحديات التي تفرضها رهانات التنمية المتكاملة.

الحقّ في التنمية وسؤال العدالة المجالية

تحيل العدالة المجالية إلى التقسيم المتوازن للمجال الجغرافي، بما يدعم الاستفادة من مختلف الثروات والإمكانيات الطبيعية والبشرية المتاحة. ولهذه العدالة مظاهر سياسية واجتماعية واقتصادية وإدارية، وتبرز الكثير من التجارب الدولية المقارنة أن هذه العدالة وإن كانت تنحو إلى الحد من الفجوات وإعادة توزيع الفرص فهي لا تعني بالضرورة توخي الدقة المطلقة في تقسيم الموارد البشرية والاقتصادية والطبيعية بين أقاليم الدولة.

لا يرتبط هاجس تحقيق العدالة المجالية بالدول النامية فقط، فقد استأثر أيضا باهتمام كثير من الدول المتقدمة كالصين وروسيا، التي اعتمدت مجموعة من التدابير والجهود على سبيل تضييق الفجوات التنموية القائمة بين بعض المناطق.

أما التنمية فتحيل ضمن مفهومها المستدام إلى مجمل التحولات التي تطال المجتمع في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقنية، بالشكل الذي يوفّر الشروط اللازمة لحياة أفضل، وبما يحقّق التطور والرفاه للأفراد في جوّ من الكرامة وعدم التمييز، كما تروم التّنمية إلى تحقيق الحاجيات الراهنة دون المساس باحتياجات الأجيال المقبلة بما يعنيه ذلك من استحضار لمتطلبات الأمن البيئي.

ويندرج الحقّ في التنمية ضمن الجيل الثالث لحقوق الإنسان إلى جانب الحق في السلام والحق في بيئة سليمة والحق في التمكين والولوج للمعلومات، ويتيح هذا الحق فرصا على قدر من التكافؤ في الوصول إلى مصادر الثروة والموارد ومختلف الخدمات، وإلى تقليص الفجوات والفوارق المختلفة، وعلى المستوى الدولي يرتبط هذا الحق بإرساء علاقات إنسانية تضامنية، وهو ما رسخته الكثير من التشريعات الداخلية والمواثيق الدولية.

ويسمح ضمان هذا الحق، بتعزيز الحق في التعليم والصحة وفي السلام وفي وبيئة نظيفة وفي المشاركة والتعبير والرأي، علاوة على استثمار العنصر البشري وتوظيف المجال والتكنولوجيا الحديثة لخلق الثّروة.

تشير الكثير من الدراسات والأبحاث التاريخية إلى أن الاستعمار الذي شهده المغرب، منذ بدايات القرن العشرين ساهم إلى حد كبير في تكريس تباين مجالي، عمّق الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة في عدد من المناطق المهمشة التي لم تحظ بتوفير البنى التحتية، فيما ساهمت قساوة الطبيعة وما يتصل بها من جفاف ووعورة التضاريس في تعميق المعاناة أكثر في بعض هذه المناطق.

ورغم الجهود المبذولة منذ فجر الاستقلال، إلا أن التباين ما زال حاصلا بين عدد من المجالات الترابية وبخاصة على مستوى توفير منشآت أساسية من مدارس وطرق ومستشفيات، والربط بالماء الشروب والكهرباء والتكنولوجيا الحديثة، الأمر الذي يسائل بشكل ملح نجاعة السياسات العمومية، ومختلف الفاعلين والمتدخلين على المستويين المحلي والوطني.

اختار المغرب نظام الجهوية كمدخل استراتيجي لتدعيم الديمقراطية المحلية، وتعزيز جهود التنمية الإنسانية، وإرساء نمط تدبير يقوم على القرب عبر إشراك الساكنة في تسيير شؤونها المختلفة، فيما تمّ بذل الكثير من الجهود على طريق الحدّ من التناقضات التي تطبع المجال الترابي، باعتماد تدابير وسن تشريعات تدعم تطوير الخيار الجهوي، وهو ما تعزّز مع دستور 2011 الذي أكد في فصله رقم 142 على أنه “يُحدث لفترة معينة ولفائدة الجهات صندوق للتأهيل الاجتماعي، يهدف إلى سد العجز في مجالات التنمية البشرية، والبنيات التحتية الأساسية والتجهيز، ويُحدث أيضا صندوق للتضامن بين الجهات، بهدف التوزيع المتكافئ للموارد، قصد التقليص من التفاوتات بينها”، غير أن كل ذلك لم يمنع من بروز مجموعة من الإشكالات والتناقضات، التي طبعت هذه التجربة، وبخاصة على مستوى تعميق معاناة عدد من المناطق النائية والقروية، وتكريس تباين في فرص التنمية بين مختلف الجهات رغم الإمكانيات المتوافرة في أبعادها القانونية والبشرية والطبيعية.

ولعل هذا ما فتح المجال لإطلاق نقاش عمومي واسع خلال السنوات الأخيرة الماضية حول تجديد وتطوير النموذج التنموي بتعليمات ملكية.

يكلّف التباين المجالي الدولة والمجتمع هدر الكثير من الفرص التنموية، فقد نبهت بعض التقارير إلى أن أربع جهات أصبحت تستأثر بأكثر من 60 بالمائة من نسبة النمو الاقتصادي الوطني، وتستقطب نسبة تتجاوز الأربعين بالمائة من إجمالي السكان، وهذا أمر طبيعي إذا استحضرنا تمركز الاستثمارات والمشاريع الكبرى، والصناعات والفلاحة المتطورة في هذه المناطق.

لا يمكن فصل كسب رهان العدالة الاجتماعية عن تحقيق العدالة المجالية، فهذه الأخيرة تمثل مدخلا أساسيا لتعزيز الممارسة الديمقراطية، وتحقيق تنمية مستدامة تقوم على استحضار الإنسان باعتباره وسيلة وهدفا، وتسمح أيضا بتوزيع عادل ومتوازن للثروات البشرية والطبيعية المتاحة، وكذا الخدمات والاستثمارات بين مختلف المناطق.

كما لا يمكن إرساء نموذج تنموي يستجيب لتطلعات المواطن، دون اعتماد تدبير استراتيجي يزاوج بين الاستجابة للمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية الآنية، والانفتاح على المستقبل بفرصه وإشكالاته، ودون استحضار متطلبات الحدّ من الفوارق المجالية، وترسيخ المقتضيات الدستورية الواردة في هذا الخصوص، على مستوى تفعيل الآليات الداعمة للتضامن بين الجهات، وتقاسم التجارب والخبرات، وتعبئة الطاقات والإمكانات المتاحة، في إطار مقاربة تقوم على التشارك بين الدولة والجماعات الترابية، ومكافحة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة، مع الانفتاح على التجارب الدولية، والتمسك بالخصوصية المغربية التي يفترض أن تطبع هذا النموذج.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا