آخر الأخبار

تسريبات تفضح قادة البوليساريو .. الحياة الباذخة تلتهم المساعدات الإنسانية

شارك

في تطور يعيد الجدل حول تدبير الموارد المالية داخل جبهة “البوليساريو” الانفصالية، كشفت منصة صحراوية معارِضة عن تسريبات دقيقة توثّق كيفية صرف ميزانية الجبهة خلال النصف الأول من السنة الجارية. وحسب البيانات المنشورة، فإن مجموع المساعدات الدولية التي تلقتها الجبهة بلغ نحو 42.3 ملايين يورو؛ ضمنها 31.6 ملايين من جهات مانحة أوروبية وأممية، خُصصت مبدئيا لتمويل البرامج الصحية والغذائية والتعليمية داخل مخيمات تندوف.

غير أن الوثائق تُظهر أن ما لا يتجاوز 7.8 ملايين يورو فقط ذهب بالفعل إلى تلك البرامج، أي أقل من 19 في المائة من إجمالي الميزانية؛ في حين تم توجيه أكثر من 13.9 ملايين يورو إلى نفقات وصفت بـ”السيادية”، تتوزع بين تنقلات خارجية وفواتير إقامة في فنادق خمس نجوم ومصاريف تمثيلية لم تُرفق بأي تقرير تدقيقي. كما خصّصت القيادة ما يناهز 5.2 مليون يورو لتجهيز مقار سكنية ومكاتب خاصة في الجزائر العاصمة، ضمن ما اعتبرته المنصة “إنفاقا خارج الأولويات الإنسانية”.

وتطرح هذه الأرقام أسئلة جدية حول غياب الشفافية وآليات المراقبة، خاصة في ظل التعتيم المفروض على الوضع المالي للجبهة، وغياب أي تقارير مستقلة من قبل المؤسسات المانحة؛ ما يعمّق من معاناة المحتجزين في المخيمات، ويكشف عن وجه آخر لصراع تتداخل فيه الاعتبارات السياسية بالمصالح الشخصية.

موقع “KGB Associated News”، المهتم بتحليل الملفات الاستخباراتية الدولية، تبنى المعطيات التي نشرتها المنصة الصحراوية المعارضة، معتبرا إياها انعكاسا لنمط إنفاق مشبوه وغير مبرر، بات سمة بارزة في السلوك المالي لجبهة “البوليساريو”.

وأفاد التقرير بأن الجبهة تتلقى سنويا ما يقارب 47 مليون يورو من المساعدات الإنسانية، تُضخّ من قبل وكالات أممية وشركاء إقليميين، تتقدمهم الجزائر وروسيا.

وأكد المصدر نفسه أن 38 في المائة فقط من هذه الميزانية تُصرف على الخدمات الاجتماعية الأساسية في المخيمات؛ في حين تُهدر النسبة المتبقية في أنشطة وصفها التقرير بـ”الدعائية”؛ من بينها تنظيم مؤتمرات خطابية بأوروبا، ورحلات خارجية تحت غطاء “الدبلوماسية الشعبية”، فضلا عن مصاريف الإقامة في فنادق إسبانية وتنظيم حفلات لا تمتّ بصلة إلى الواقع الإنساني للمحتجزين.

كما أشار التقرير إلى احتمال توجيه جزء من تلك الأموال إلى حسابات مصرفية مشبوهة بأسماء وهمية، موزعة بين مدريد وجزر الكناري وجنوب إفريقيا، في غياب تام لأية آلية شفافة للمراقبة أو التدقيق المالي داخل الجبهة.

خروقات جسيمة

عبد الله فرجي، أستاذ القانون الدولي بالجامعة الدولية بالرباط، سجل أن المعطيات المتداولة تمثل انتهاكا مركبا لنصوص قانونية دولية ملزمة؛ من بينها المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تُلزم أية جهة متلقية للمساعدات الإنسانية بضمان استفادة المدنيين منها دون تمييز، والمادة 60 من النظام المالي النموذجي لوكالات الأمم المتحدة التي تشدد على مبدأ التخصيص الحصري والشفافية في تدبير الأموال.

وأبرز فرجي، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن توجيه مبالغ ضخمة من المساعدات نحو أغراض خاصة، كالإقامات الفندقية أو ما يُسمى بـ”الدبلوماسية الشعبية”، يُصنف ضمن سوء استخدام الموارد الدولية ويشكّل إخلالا بالتزامات تعاقدية تُرتب مسؤولية قانونية.

ولفت المتحدث عينه إلى أن هذه التجاوزات قد تفتح الباب أمام تحقيقات دقيقة من لدن المكتب الأوروبي لمكافحة الغش (OLAF) ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، مع إمكانية تحريك دعوى مساءلة أمام هيئات مختصة كالمحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية، حسب طبيعة الانتهاكات وثبوت القصد الجنائي.

وأوضح الأستاذ الجامعي المتخصص في القانون الدولي أن الإطار القانوني الذي تتحرك فيه جبهة “البوليساريو” لا يستند إلى أي أساس تعاقدي مُلزِم؛ ما يجعلها بمنأى عن مقتضيات المادة الثالثة من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي تضمن الحق في الاستفادة من الموارد العامة بطريقة عادلة.

كما أشار فرجي إلى أن التصرف في الأموال الدولية خارج الضوابط الإنسانية يتنافى مع المادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدولية غير الحكومية، التي تُقيّد استخدام المساعدات لأغراض غير المصرح بها.

وأضاف أن غياب آليات التتبع الداخلي أو تقارير المراجعة يُخالف ما جاء في المادة الرابعة عشرة من دليل معايير المحاسبة الدولية للقطاع العام، والتي تُلزم أي كيان يستفيد من تمويلات خارجية بإعداد بيانات مفصلة عن طرق الصرف والوجهات المستفيدة.

وخلص المصرح عينه إلى أن هذا الوضع لا يُهدّد فقط شفافية الإنفاق؛ بل يُعرّض الجبهة لاتهامات دولية تتعلّق بسوء تدبير الأموال العابرة للحدود، في ظل تصاعد الدعوات لفتح مسارات تدقيقية مستقلة من لدن أجهزة مختصة تابعة للأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.

وفي تفاعله مع سؤال هسبريس حول الكيفية التي يمكن أن تستفيد بها المملكة المغربية من هذه التسريبات، اعتبر فرجي أن اللحظة تفرض على الدبلوماسية المغربية تعبئة كل المسارات القانونية من أجل فضح ما وصفه بـ”الانحراف المالي المُمأسس” داخل جبهة “البوليساريو”.

وأوضح أن المغرب يستطيع تفعيل المادة 61 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تخوّل للدول المتضرّرة من عمليات اختلاس أو تبديد أموال موجهة لأغراض إنسانية اللجوء إلى آليات التعاون القضائي الدولي لفتح تحقيقات مشتركة أو متزامنة مع دول الإيواء والتحويلات.

كما نبّه إلى أهمية الاستناد إلى المادة 43 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تربط تقديم الدعم الإنساني بمدى التزام الجهة المستفيدة بقواعد السلم والأمن الدوليين، مبرزا أن توظيف تلك المساعدات في أنشطة ذات طابع عدائي أو تعبوي يضع الجبهة خارج نطاق الحماية المدنية ويفتح باب المساءلة الدولية.

وأكد فرجي أن المغرب، من خلال تمثيلياته الدبلوماسية في بروكسيل وجنيف، يستطيع المطالبة بإحداث لجنة تدقيق تابعة للجهات المانحة، تعمل بموجب المعايير الواردة في المادة الثامنة من اتفاقية الشفافية المالية للأمم المتحدة وتُلزم كل الأطراف بالكشف عن طرق صرف الأموال.

وخلص إلى أن هذه المعطيات تمنح المغرب أداة استراتيجية لإعادة تعريف “البوليساريو” أمام المجتمع الدولي، باعتبارها بنية مغلقة تُخالف مقتضيات الشفافية وتفتقر إلى الشرعية الأخلاقية والسياسية.

اختلال بنيوي

ياسين بركاش، أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، قال إن ما تكشفه التسريبات لا يعبّر فقط عن حالات معزولة من سوء التصرف؛ بل يعكس اختلالا بنيويا في نمط توزيع الموارد داخل الجبهة.

وأوضح بركاش، في تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هيمنة الإنفاق غير المنتج وتوجيه الجزء الأكبر من الدعم نحو استهلاك خاص لا يخلق قيمة مضافة يُضعف أية إمكانية لتأسيس بنية اقتصادية مستدامة في المخيمات، ويحوّل السكان إلى رهائن في معادلة سياسية مغلقة.

وأشار الأستاذ الجامعي المتخصص في الاقتصاد إلى أن غياب أية آلية لمراقبة الكفاءة في الإنفاق وافتقاد برامج الدعم للتخطيط التنموي يضع الجبهة في مواجهة مأزق اقتصادي يتفاقم مع كل موسم، خصوصا في ظل تراجع الثقة الدولية وتزايد الشكوك حول أوجه صرف الأموال.

وسجل المتحدث عينه أن الاستمرار في هذا النهج لن يؤدي إلا إلى مراكمة الفجوات الاجتماعية داخل المخيمات، وتقويض أي خطاب رسمي يتحدث عن تمثيل مشروع أو قيادة مسؤولة.

وأضاف بركاش أن استمرار جبهة “البوليساريو” في إنفاق الموارد المالية الموجهة أساسا إلى الدعم الإنساني على أنشطة لا تمت بصلة إلى التنمية أو تحسين الظروف المعيشية داخل المخيمات من شأنه أن يخلّ بتوازنات الدعم الدولي ويؤدي إلى تقويض الثقة بين الجبهة والجهات المانحة.

وأوضح أن هذا النوع من السلوك المالي يُنتج ما يُعرف في الاقتصاد السياسي بـ”الاقتصاد الريعي غير المنتج”، حيث تُعاد تدوير الموارد في شبكات مغلقة للامتيازات، بدل ضخّها في مشاريع مستدامة.

وتابع أن الأثر الاقتصادي لا يتوقف عند حدود تراجع التمويل الخارجي؛ بل يمتد إلى خلق بيئة من الركود الاجتماعي، بفعل غياب أي تحفيز على الابتكار أو الإنتاج الذاتي، ما يجعل سكان المخيمات رهائن لبنية تَحكُّم لا تعترف بقواعد العرض والطلب، ولا تراعي الفعالية الاقتصادية.

وأكد أن مثل هذا النمط يُفاقم من تبعية الجبهة للدعم الخارجي، ويُبعدها عن أي مسار تنموي حقيقي؛ وهو ما يُهدّد استقرارها من الداخل قبل أن تتهدد من الخارج.

في رده عن سؤال هسبريس حول تداعيات التسريبات المالية الأخيرة على الموقف الجزائري، سجل الأستاذ الجامعي ذاته أن ما كُشف من معطيات لا يضرب فقط في مصداقية جبهة “البوليساريو”؛ بل يُقوّض صمت الراعي الرسمي لها: الجزائر.

وأكد المصرح عينه أن حجم التمويل الذي تضخه الجزائر سنويا، والذي يُقدّر بما يفوق 40 مليون يورو عبر قنوات مباشرة وغير مباشرة، أضحى عبئا اقتصاديا وأخلاقيا في آن، خصوصا في ظل مؤشرات التبذير وسوء التدبير التي حملتها التسريبات الأخيرة.

وأبرز أن هذا الوضع فجّر نقاشا داخليا غير مسبوق في الجزائر، حيث بدأت دوائر اقتصادية ونقابية وإعلامية تطرح علنا تساؤلات حول منطق “التمويل غير المشروط لكيان غير منتج ولا خاضع للمساءلة”، في وقت تعرف فيه البلاد تفاقما في المطالب الاجتماعية وتراجعا في القدرة الشرائية، وتأزما في التوازنات الماكرو-اقتصادية.

هذه التحولات، برأيه، لا تقتصر على البعد التقني؛ بل تحمل في طياتها ملامح تحول في المزاج السيادي الجزائري نفسه تجاه هذا الملف.

وخلص إلى أن هذه اللحظة، بكل تشعباتها، تمثل فرصة استراتيجية للمغرب من أجل الدفع نحو كشف “ثنائية التواطؤ والتبذير” التي تحكم علاقة الجزائر بالبوليساريو، وتوظيفها أمام المنتظم الدولي لتفكيك صورة “الراعي الإنساني” التي طالما روّجت لها الجزائر وإبراز كلفة هذا الانحراف المالي والسياسي على الأمن الإقليمي والاستقرار الاجتماعي في المنطقة.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا