آخر الأخبار

الهيمنة المسمومة .. كيف دفعت الصين ثمناً باهضاً للسيطرة على المعادن النادرة

شارك

في سباقها نحو الهيمنة على سوق المعادن النادرة، التي تُعد العمود الفقري للصناعات التكنولوجية والعسكرية الحديثة، نجحت الصين فيما فشلت فيه قوى صناعية كبرى. فقد أصبحت المنتج الأول عالميًا لهذه العناصر الحيوية، وأحكمت قبضتها على سلاسل الإمداد العالمية. لكن هذا الإنجاز، وفق ما كشفت عنه صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، لم يكن بلا ثمن. إذ تراكمت على مدى عقود كلفة بيئية وصحية هائلة، تدفعها اليوم مجتمعات صينية بأكملها، من منغوليا الداخلية شمالًا إلى جيانغشي جنوبًا.

مدينة باوتو، التي تُلقّب بـ”عاصمة المعادن النادرة” وتقع على حافة صحراء “غوبي” في منغوليا الداخلية، تُعد مركزًا رئيسيًا لهذه الصناعة. غير أن وجهها الصناعي يخفي كارثة بيئية موغلة في العمق. فقد نشأت بالقرب منها بحيرة صناعية تُعرف باسم سد ويكوانغ، تمتد على أربعة أميال مربعة، تتراكم فيها نفايات المعالجة الكيميائية للمعادن النادرة والحديد منذ الخمسينيات، دون أي حماية أرضية تمنع تسرّب المواد السامة إلى المياه الجوفية.

وحسب أوراق علمية صادرة عن باحثين صينيين، فإن الغبار المتطاير من هذه البحيرة، لا سيما خلال فصول الجفاف، يحتوي على الكادميوم والرصاص والثوريوم المشع، فيما يختلط سطحها المائي صيفًا بمركبات كيميائية خطيرة تواصل تسربها إلى التربة والمياه.

وكشفت “نيويورك تايمز” أن المعضلة لا تقتصر على الأثر النظري. إذ توصلت أبحاث إلى ارتفاع مستويات المعادن الثقيلة في بول الأطفال القاطنين قرب باوتو، وظهرت لدى بعضهم اضطرابات في النمو الذهني. وحسب ورقة نشرتها “جامعة منغوليا للعلوم والتكنولوجيا”، فإن المخاطر البيئية تتضاعف كلما اقتربت المجتمعات السكنية من بحيرات النفايات.

وكانت تقارير صينية رسمية قد أقرت منذ أكثر من عقد بتسرّب الثوريوم المشع من منجم “بايان أوبو”، الواقع على بعد 130 كيلومترًا شمال باوتو، إلى الهواء والمياه، مما فاقم القلق الصحي، رغم الوعود الحكومية المتكررة بإصلاح القطاع.

ووفق المصدر الصحافي ذاته، تُحاط هذه القضية بحالة من الرقابة المتزايدة داخل الصين، إذ اختفت معظم التقارير الإعلامية التي كانت قد وثّقت، قبل عقد من الزمن، نفوق قطعان من الأغنام والماعز نتيجة التسمم بالغبار الصناعي. بل إن صحافيي “نيويورك تايمز” أنفسهم تعرّضوا خلال زيارتهم الأخيرة في يونيو إلى استجواب من طرف عناصر أمنية وشركة “باوغانغ”، التي تدير غالبية مناجم المنطقة، واعتُبر موقع سد ويكوانغ “سرًّا تجاريًا”.

لا يُنكر المراقبون أن الحكومة الصينية قامت بخطوات متأخرة لتحسين الوضع، من خلال نقل التجمعات السكنية، وتقوية الحواجز المحيطة ببحيرة النفايات، وبناء قنوات إسمنتية لاحتواء التسرب. غير أن التهديد الجوهري لا يزال قائمًا، نظرًا لطبيعة التربة الملوثة، وحجم المواد السامة المتراكمة منذ أكثر من ستة عقود، وصعوبة إعادة معالجة المخلفات التي تتداخل فيها نفايات الحديد مع نفايات المعادن النادرة.

في لونغنان جنوب الصين، حيث تُستخرج “العناصر الأرضية الثقيلة”، بدا التلوث أكثر خفاءً، لكنه لا يقل خطورة. نهر صغير يمرّ قرب المناجم تحول إلى مجرى برتقالي اللون تفوح منه روائح غريبة، رغم بعض الجهود الرمزية، مثل تغليف أحواض النفايات ببطانات بلاستيكية.

وتُظهر الوثائق أن مناجم هذه المنطقة تُنتج عناصر نادرة تُستخدم في تصنيع مغانط قوية تدخل في صناعة الصواريخ والمقاتلات الكهربائية والمركبات الذكية. وقد فرضت بكين مؤخرًا قيودًا على تصدير بعض هذه المواد، خاصة الساماريوم، لأسباب تُوصف بأنها تجارية وسياسية في آن معًا.

تاريخيًا، تعود جذور هذا التمكين الصناعي إلى مرحلة ماو تسي تونغ، حين طُوّرت صناعة الحديد والصلب، قبل أن يمنح دينغ شياو بينغ الضوء الأخضر لاستخراج المعادن النادرة في أواخر السبعينيات. وقد وُصف اكتشاف منجم “بايان أوبو” حينها بأنه “كنز استراتيجي”، بسبب احتوائه على السيريوم واللانتانيوم، وهما عنصران يُستخدمان في تكرير النفط وصناعة الزجاج، إلى جانب الساماريوم الضروري لصناعة مغانط الطائرات الحربية.

وفي هذا السياق قال دينغ عبارته الشهيرة في 1992: “الشرق الأوسط يملك النفط، أما الصين فلديها المعادن النادرة”.

وأشار تحقيق الصحيفة الأمريكية إلى أن الصين حققت هيمنة صناعية شبه مطلقة على سوق المعادن النادرة، بفضل مزايا الإنتاج منخفض التكلفة وضعف الرقابة البيئية، لكنها ورثت إرثًا ثقيلًا من التلوث والأضرار الصحية. وفي الوقت الذي تستمر بكين في استخدام هذه الهيمنة كورقة ضغط جيوسياسية، تتواصل معاركها الداخلية للسيطرة على آثار هذا النجاح الصناعي المكلف.

هسبريس المصدر: هسبريس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا