فَقَدَ المغرب، برحيل الأستاذ عبد الحق المريني، قامة وطنية سامقة وشخصية متعددة الأبعاد، جمعت بين دقة المؤرخ وحصافة الناطق الرسمي باسم القصر الملكي ورصانة رجل الدولة..
لم يكن المريني مجرد مسؤول سام تقلد مناصب حساسة؛ بل كان رمزا للولاء والالتزام الأكاديمي والوطني، تاركا خلفه إرثا غزيرا من العطاء امتد لعقود، خدم فيها الدولة والمؤسسة الملكية بإخلاص وتفان؛ مما يجعل غيابه خسارة فادحة للمشهد الثقافي والتاريخي المغربي.
لعل إحدى أبرز الساحات التي تجلى فيها عطاء الراحل هي جامعة مولاي علي الشريف بمدينة الريصاني (إقليم الرشيدية)، هذه المؤسسة العلمية التي أسست بتوجيهات ملكية سامية عام 1989 لتوثيق تاريخ الدولة العلوية الشريفة.. لقد فقدت هذه الجامعة، بوفاة المريني، أحد أهم أعمدتها ورئيس لجنتها العلمية لسنوات طويلة، الرجل الذي قاد دفتها البحثية بحنكة واقتدار، وحوّلها إلى منارة لتوثيق الذاكرة الوطنية؛ مما يستدعي وقفة لتسليط الضوء على دوره المحوري في هذه المؤسسة الفريدة.
وأجمع عدد من الأساتذة الذين سبق لهم أن ساهموا في إغناء النقاش في الندوات العلمية لجامعة مولاي علي الشريف أن بصمة الراحل تجلت في تحويل أعمال الجامعة إلى مراجع علمية أساسية، مشيرين إلى أنه قد أشرف على إصدار عشرات المجلدات التي ضمت أعمال الندوات العلمية، والتي غطت جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية من تاريخ المغرب.
ولقد نجح الفقيد في جعل جامعة مولاي علي الشريف جسرا يربط بين البحث الأكاديمي الرصين وذاكرة الأمة، محافظا على الإشعاع التاريخي لمنطقة الريصاني وسجلماسة، ومؤكدا على أهمية هذا الإرث في فهم الحاضر المغربي.
كمال البوعزاوي، أستاذ من الريصاني، قال إن اسم عبد الحق المريني ارتبط بجامعة مولاي علي الشريف ارتباطا وثيقا، بصفته مؤرخ المملكة، كان الاختيار الأمثل لقيادة لجنتها العلمية.
وأضاف البوعزاوي، في تصريح لهسبريس، أن هذه الجامعة لم تكن مؤسسة تعليمية تقليدية؛ بل كانت مركزا بحثيا متخصصا في تاريخ منطقة تافيلالت كمهد للدولة العلوي.
وتابع المتحدث: “وهنا برز دور المريني كـ “مايسترو” يضبط إيقاع البحث العلمي، ويشرف على توجيه الندوات والمحاضرات السنوية التي تستقطب نخبة المؤرخين والباحثين من داخل المغرب وخارجه، تواكبه تغطية إعلامية مميزة”.
من جانبه، قال أحمد آيت الطالب، فاعل مدني وأحد المشاركين في الدورات السابقة للجامعة ذاتها، إن تدبير الراحل لشؤون اللجنة العلمية تميز بالصرامة المنهجية والبحث عن الدقة التاريخية.
وأوضح آيت الطالب: “تحت رئاسته، لم تكن اللجنة مجرد هيئة تنظيمية؛ بل كانت مختبرا لإنتاج المعرفة التاريخية الموثوقة.
وأضاف الفاعل المدني ذاته أن الراحل عبد الحق المريني عرض على أن تكون جميع الإصدارات والمنشورات الصادرة عن الجامعة مستوفية لأعلى المعايير الأكاديمية، مبتعدا عن السرديات السطحية ومركزا على التوثيق والتحقيق العميق للمصادر التاريخية المتعلقة بالدولة العلوية وتاريخ المغرب الحديث.
لحسن رابح، طالب باحث في سلك الدكتوراه، قال إن دور عبد الحق المريني كرئيس اللجنة العلمية لجامعة مولاي علي الشريف لم يكن منفصلا عن مهامه كمؤرخ للمملكة والناطق الرسمي باسم القصر الملكي، لقد وظف خبرته العميقة في الوثائق والمخطوطات السلطانية لخدمة أهداف الجامعة.
وأضاف رابح أن الراحل كانت رؤيته ترتكز على أن فهم تاريخ الدولة العلوية يتطلب منهجية علمية دقيقة؛ وهو ما كرسه في توجيه أعمال الباحثين، فكان بمثابة الضامن للمصداقية العلمية لكل ما يصدر عن هذه المؤسسة البحثية المرموقة.
وبعيدا عن الأروقة الأكاديمية، كان الراحل يمثل وجها آخر لرجل الدولة الكتوم والوقور، بصفته ناطقا رسميا باسم القصر الملكي.. لقد أدار هذا الملف الحساس بحكمة ودبلوماسية عالية، فكان صوتا للرزانة والاتزان، وعرف عنه قربه من الملك الراحل الحسن الثاني والملك محمد السادس، هذا الجمع بين المسؤولية السياسية الرفيعة والإشراف الأكاديمي الدقيق جعل منه شخصية ذات ثقل استثنائي في النسيج المؤسساتي المغربي.
وعرف عن عبد الحق المريني أيضا، بصفته مديرا للتشريفات والأوسمة سابقا، دقته المتناهية واهتمامه بأدق التفاصيل البروتوكولية والتاريخية، هذه السمات الشخصية انعكست إيجابا على طريقة تسييره للجنة العلمية لجامعة مولاي علي الشريف، حيث كان يتابع كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالمحتوى العلمي والشكل التنظيمي للندوات وضمان الحفاظ على الهيبة الأكاديمية والتاريخية للمؤسسة.
إن رحيل عبد الحق المريني يترك فراغا كبيرا، ليس فقط في المناصب التي شغلها؛ بل في الساحة الفكرية المغربية. لقد كان حارسا أمينا للذاكرة الوطنية، ومؤرخا نذر حياته لخدمة العلم وتوثيق تاريخ بلاده، وخسارته هي خسارة لرجل دولة خدم بإخلاص ولرئيس لجنة علمية ترك في جامعة مولاي علي الشريف إرثا من الصرامة الأكاديمية والإنتاج المعرفي الرصين سيظل شاهدا على مسيرة حافلة بالعطاء.