أكد هشام بلاوي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورئيس النيابة العامة، أن الكد والسعاية شكّل عبر التاريخ أحد الحلول الفقهية الأصيلة التي استجاب بها العلماء والقضاة للنوازل المجتمعية، مبرزين من خلالها فهماً عميقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية، ومؤسسين لقاعدة فقهية تقوم على قيم الإنصاف والعدل، بالاعتراف بالجهد الذي تبذله المرأة في تنمية المال الأسري، خاصة في المناطق الفلاحية والريفية.
في كلمة له خلال ندوة دولية نظمت في الرباط تحت عنوان “نظام الكد والسعاية في ضوء مراجعة مدونة الأسرة”، سجل بلاوي أن الموضوع يلامس بشكل مباشر الجهود المبذولة لإعمال حقوق النساء داخل الأسرة المغربية، من خلال الاعتراف بمساهمتهن الاقتصادية، وإعادة الاعتبار لمبدأ الكد والسعاية في ضوء الاجتهاد القضائي والممارسة الفقهية.
وأشار إلى أن هذا المفهوم كان محل اهتمام عميق من قبل كبار الفقهاء، وتمت معالجته في مؤلفات عديدة حاولت تأصيله شرعيا وتحديد تطبيقاته العملية. مستشهدا بما عرفه المغرب من إعمال فعلي لهذا الحق في بعض مناطقه، كجهة سوس وقبائل غمارة، حيث صدرت بشأنه فتاوى، من أشهرها فتوى الفقيه ابن عرضون حول مساهمة المرأة في الغلة الفلاحية، والتي عكست تفاعل الفقه مع الواقع، من خلال اعمال المبدأ التشريعي القائل أن النص ثابت والواقع متغير.
وأوضح رئيس النيابة العامة أن كتب النوازل كانت بمثابة حقل للاجتهاد العملي، ربطت بين النصوص الشرعية وواقع الناس، وأهلت الفقهاء للبحث في مناطات الأحكام بما يحقق مصالح الأفراد. كما أن القضاء المغربي تبنى هذه الممارسات العرفية الإيجابية، واعتمدها كأساس لإصدار أحكام منصفة تطورت فيما بعد لتصبح قاعدة قانونية تقر بحق الزوجة في تقاسم الأموال المكتسبة خلال فترة الزواج، بحسب ما قدمته من مجهودات وما تحملته من أعباء.
وأكد الوكيل العام لدى محكمة النقض، أن هذا التراكم القضائي المنصف، الذي أنشأته قامات قضائية وفقهية متميزة، ينسجم تماماً مع تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان في شقه المتعلق بتمكين النساء، ويعكس في الآن ذاته حيوية الاجتهاد القضائي المغربي، الذي أبان عن قدرته على ملامسة التحولات المجتمعية ومواكبتها عبر حلول عادلة ومنصفة، ما جعله اليوم أحد روافد التشريع و احد اهم روافده .
وأضاف أن هذا الدور أصبح أكثر إلحاحاً مع تنامي الأدوار التي تضطلع بها المرأة المغربية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ومساهمتها المتزايدة في الإنفاق الأسري إلى جانب الرجل، مما يقتضي تعميق مقاربات المساواة والمناصفة داخل الأسرة، في انسجام تام مع ما ينص عليه الفصل 32 من دستور المملكة، الذي يجعل من الأسرة نواة المجتمع الأساسية.
وفي سياق متصل، نوّه بلاوي بالدور المحوري لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، الذي عمل منذ اعتلائه العرش على تعزيز مكانة المرأة المغربية، وحمايتها قانونياً ومؤسساتياً، من خلال إصلاحات هيكلية وخطابات سامية أرست مبدأ المناصفة والتمكين الحقوقي. واستشهد في هذا الإطار بمضامين الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش لسنة 2022، حيث شدد الملك محمد السادس على ضرورة المشاركة الكاملة للمرأة في التنمية، وعلى أن الأمر لا يتعلق بمنح امتيازات، بل بإعطاء المرأة حقوقها القانونية والشرعية كاملة غير منقوصة.