يقف المغرب اليوم على عتبة تحول حاسم في مسار تحديث الإدارة وتعزيز أداء القطاع العمومي، باعتباره أحد الركائز الأساسية لتحقيق التنمية الشاملة وترسيخ الحكامة الجيدة. وفي سياق تتسارع فيه وتيرة الإصلاحات، تبرز الحاجة الملحّة إلى مقاربات متكاملة تزاوج بين الإرادة السياسية والفعالية المؤسسية، وتضع المواطن في صلب الاهتمام العمومي.
وفي مقال تحليلي توصلت به هسبريس من فؤاد بوجبير، باحث في علوم الإدارة والتدبير العمومي، يحضر رصد لمعالم هذا التحول وتشخيص للتحديات البنيوية والوظيفية التي لا تزال تعيق إقلاع القطاع العمومي، كما يقدم رؤية متكاملة حول آليات تحسين الأداء الإداري، من خلال تفعيل الرقمنة، والارتقاء بجودة الخدمات، وتمكين الموارد البشرية، وتكريس اللامركزية واللاتمركز، وذلك في أفق بناء نموذج إداري فعال ومتجاوب مع انتظارات المواطنين.
يقف المغرب اليوم عند مفترق طرق مفصلي في ترسيخ جهوده الرامية إلى التحديث وتعزيز قدرات القطاع العمومي، باعتباره حجر الزاوية في تحريك التنمية الشاملة ودعم الحكامة الرشيدة.
ففي الوقت الذي تقوم فيه البلاد بتسريع برنامجها الإصلاحي، يتفق الخبراء وصانعو السياسات العمومية على ضرورة توفر عوامل مترابطة عدة من شأنها تحديد نجاح واستدامة هذا التغيير. ففي قلب أي إصلاح ذي معنى تكمن إرادة سياسية قوية وداعمة.
في المغرب، أكدت السلطات العليا مرارًا وتكرارًا ضرورة إصلاح الإدارة العمومية بغية تحسين الكفاءة والشفافية وكسب ثقة المواطنين.
فقد حرصت الخطب الملكية السامية على جعل إصلاح القطاع العمومي في صدارة الأولويات، غير أن ترجمة هذه الرؤية إلى تغييرات ملموسة تتطلب تنسيقًا فعالًا على جميع المستويات والتزاما حازما من طرف المسؤولين الإداريين، الذين يجب أن يكونوا قدوة حسنة للآخرين .
من المؤكد التوجهُ نحو مقاربة تركز على إيلاء أهمية كبرى للمواطنين المرتفقين؛ فإصلاح القطاع العمومي لا يقتصر فقط على مجرد إعادة هيكلة داخلية، بل يتعلق الأمر، بشكل أساسي، بتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطن.
لقد بدأ المغرب في الابتعاد عن النموذج البيروقراطي الجامد مقابل التركيز على إعطاء الأولوية لاحتياجات وتوقعات المستفيدين. ويتجلى هذا على الخصوص في مجموعة من المبادرات مثل التحول الرقمي للخدمات الإدارية، وتطبيق ميثاق المواطنة بالمؤسسات العمومية.
لقد كان التعقيد والغموض اللذان يكتنفان الإجراءات الإدارية لفترة طويلة تحديا كبيرا. ولمعالجة ذلك، كان لِزاماً إعطاء الأولوية لتبسيط المساطر الإدارية والرقمنة. وقد حقق المغرب تقدمًا ملحوظًا في هذا الصدد، من خلال اعتماد منصات رقمية مثل البوابة الالكترونية www.chikaya.ma لتلقي شكايات المرتفقين وكذا تحسين جودة الولوج إلى الخدمات في مختلف المجالات مثل الضرائب والعدل والصفقات العمومية.
ومع ذلك، فإن ضمان استفادة جميع المناطق، وخاصة المناطق القروية وكذا تلك التي تعاني نقصًا في الخدمات، من الخدمات الرقمية يمثل مصدر قلق دائم يتطلب تجاوزه تنمية شاملة للبنية التحتية.
كما يعد الرأسمال البشري عنصرا حاسما في هذا التطور؛ بحيث لا يمكن لأي إصلاح أن يحقق النجاعة والفاعلية بدون تكوين مستمر جيد للموظفين العموميين، والتحلي بسلوكيات أخلاقية نموذجية وتوفير بيئة عمل محفزة.
لقد أطلق المغرب مبادرات عدة همت تعزيز قدرات الوظيفة العمومية، وتحسين مستوى التكوين، وترسيخ ثقافة إدارية تركز على ضمان النتائج والفاعلية.
إن الإصلاحات التي همت أنظمة الوظيفة العمومية وتعزيز ممارسات التوظيف والترقية القائمة على الاستحقاق، هي إصلاحات تهدف إلى إزالة الطابع السياسي للتعيينات وتعزيز الروح المهنية. ومع ذلك، مازالت هناك تحديات متعلقة في بعض الحالات بالغموض في تدبير الموارد البشرية، كما أكدت على ذلك المؤسسات الرقابية، يتعين معالجتها من خلال أنظمة شفافة وتعزيز الرقابة.
تعزيز مسار اللامركزية عرف بدوره تقدمًا كبيرًا، فاعتماد المقاربة المغربية للجهوية المتقدمة منح المزيد من السلطة والاستقلالية للجهات والجماعات المحلية، ويهدف هذا البعد المجالي للإصلاح إلى جعل الفعل العمومي أكثر استجابة وتكيفًا مع الواقع المحلي. ولكي تكون الجماعات المحلية أكثر فاعلية، فعليها، إلى جانب تمتعها بالاستقلالية القانونية، أن تتمتع أيضًا بالقدرات الإدارية والموارد المالية اللازمة لإدارة برامج التنمية بتوافق مع الاستراتيجيات الوطنية.
علاوة على ذلك، ونظرًا لأن النتيجة الطبيعية لللامركزية هي اللاتمركز الإداري، فمن الضروري تسريع تنفيذ جميع أحكام الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، ولا سيما منح صفة آمر بالصرف جهوي لرؤساء المصالح اللاممركزة على المستوى الجهوي لتمكينهم من صرف الاعتمادات المخصصة لها.
في الأخير، فإن نجاح الإصلاح يعتمد على القدرة على تتبع التقدم وضمان المساءلة. لقد أحرز المغرب تقدمًا في هذا المجال من خلال تعزيز دور وصلاحيات ومهام مؤسسات مثل المجلس الأعلى للحسابات، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومكافحتها، وهيئات الرقابة البرلمانية. هذه الأجهزة تلعب دورًا أساسيًا في تتبع الأداء واكتشاف أوجه القصور.
مع ذلك، تبقى الحاجة إلى ثقافة مبنية على تقييم أكثر منهجية وشفافية، تدمج ملاحظات المواطنين وتعزز التعلم المستمر.
مع تقدم المغرب، يظل إصلاح القطاع العمومي، في آن واحد، ضرورة حتمية وطنية ومشروعا معقدا، سيعتمد نجاحه ليس فقط على نصوص قانونية وبرامج جديدة، ولكن أيضًا على تعزيز ثقافة حكامة راسخة في النزاهة والأداء وثقة المواطن. فبفضل مزيج حكيم من القيادة السياسية والابتكار المؤسساتي والالتزام الوطني، يمكن للقطاع العمومي المغربي أن يصبح محركًا حقيقيًا للتنمية والتماسك الاجتماعي.