ولأنّني جَبَلِيُّ الهَوى أعشقُ مدينة شَفشاون، ولدتُ في “أيْلَةَ” قريتي بين ضُلوع الجبال وتَشقُّقاتها، وتحت أسقُف الجبال وقِمَمها المُسنّنة. أداوم على زيارة المدينة، وأعشق نسيم هوائها وصفاء مياه ينابيعها. ولأن شفشاون مدينة جبلية، فهي لا تختلف عن قريتي، ضيّقة الأزقة، مُلتوية الدُّروب، مُعلقة بين السّماء والأرض مثل سَحابة. شفشاون مِصَحّة مفتوحَة بدون أطباء، ولذلك أقصدها بُغْيَة تنظيف رئتيّ بطيب هوائها، كما أشياء أخرى. الشّاوْن أو شفشاون، كما يُحِبّ أهلها أن يُسمّوها، هي المدينة الوحيدة التي لا تحتاج فيها إلى مُنَبّه السّاعة للخَلاص من النّوم. تستيقظ فيها تلقائيًّا ونشيطًا، وأنت في كامل حَيويّتك كأنك ابن العشرين، مهما بلغ منك التّعب.
وأنت في حَضرة مَولانا الشاعر عبد الكريم الطبال، تدرك قيمَة الكلمات وحَجمها، لا مَجال للكلمات والجُمَل السّائبة في شعره، لا لغوَ أو حشوَ في كلامه، فمَا بالك بالقصيدة الشّعرية. كلّ الكلمات عنده مَحسوبة ومَوزُونة بميزان. وأنت في حضرته تجد نفسك أمام شخص شحّيح، صَمُوت وقليل الكلام. وهكذا هي طبيعة مولانا الشاعر، وهذا هو طبعه. الشاعر الطبال من أكبر المُقتّرين في اللغة عند بناء القصيدة، لا يُسرف في تسطير الجُمل الطويلة والكلمات المُنفّرَة، وكأنه يكتب مُعادلات في الرّياضيات. يُحَمّل كلماته ألف مَعنى، قد لا تُدرَك بعضُ المعاني إلا بالمُعاناة وإعمَال العَقل. عبد الكريم الطبّال من دون شك أحد روّاد القصيدة الشعرية الحديثة في المغرب، وواحد من ركائزها. بدأ كتابة الشعر مُبكّرًا عام 1948م، كما صرّح لي صاحبُه الشاعر محمد السرغيني، ذات خُلوة شعرية رفيعَة. وبهذا المعنى، نحنُ أمام ثمانية عُقود من الكتابة، واحترافية في العمل الشعري.
يُشكل الطبّال رُفقة السّرغيني والرّاحل محمد الميموني أقدم ثلاثة من المُحرّرين للقصيدة المغربية الحديثة من قيودها التقليدية، وهم أوّلُ من مَغرَب القصيدة الشعرية. تمسّك مولانا الشّاعر بمنطق الحياة وشعرية القصيدة، واتكأ إلى عُزلة جبلية لذيذة في بلدة شفشاون الجميلة، لا يفارقها إلا لكي يعود إليها مُسرعًا. حاولت في مرّات عديدة مُحاورة الشاعر الطبال، ولكنني أعجزُ في كل مرّة، وأجدُ الأسئلة تتلكأ بين عظمة لساني، ليس لأنني لا أعرفُ ما أقول له أو تخونُني الأسئلة، وليس لأنّني عاجزٌ أو غير جدير بمُجاراته. إنما يُسيطر عليّ الحياء، ويغلبني وَقارُه، وكثيرًا ما يلفّني هذا الحَياء، وأجد نفسي خَجولا أمام تجربة ثمانية عقود من الشعر تقريبًا. أما عن أسئلتي، فهي في جُلّ حواراتي تفاعلية وجاهزة، ولا أعتمد في طرحها على ورقة أو تراتبية مُحنّطة.
حين دخلت شفشاون قادما إليها من تطوان، بعد لقاءٍ لذيذٍ مع الباحث والأكاديمي عبد الرحيم جيران، بدأت كما هي عادتي في تأمين الإقامة. ولكن نسيتُ في زحمة الأحداث أنّ اليومَ سبتٌ، وهو بداية عطلة الأسبوع، وأن شفشاون بفضاءاتها وفنادقها ومطاعمها تفاجأت، هي الأخرى مثلي، وانبهرت بوُصول وفود هائلة من السُّياح المغاربة والأجانب. وأنا ألهث بحثًا عن غُرفة في فندق بنجمَة أو بدونها، استغربت للحضور السياحي الاستثنائي والمُلفت في المدينة. ازدحامٌ لم أعتد عليه منذ معرفتي بالمدينة في أول زياراتي سنة 1975م بمناسبة رحلة مدرسية في الإعدادي.
ومن حُسن حظّيَ أن وجدت شابًّا في أحد الفنادق، وأنا أهمّ بمُغادرتها إلى فاس، إذا قُدّر ولم أجد غرفة في آخر محاولات بحثي، وقد تعبت من التّوَهان بين أزقة المدينة وشوارعها. بحثت في جُلّ الفنادق عن غرفة، بما فيها تلك التي لم أتجرّأ عليها يومًا. وحين سألت الشاب عن غرفة، أجابني بالنّفي، وبأنّ الشّاون على غير عادتها، أصبحت غيرُ قادرة على استيعاب زُوّارها هذه الأيام. لاحظت ذلك بدوري، وبشكل جليّ في الحركة الكبيرة وتنوّع اللكنات واللغات. لم يعُد زُوّارها كما قبلُ مغاربة وإسبان وصينيّون. كان كل شيء غير عادي في المدينة: صخب الدراجات النارية من الحجم الكبير، توالي القوافل، سيارات نقل السياح، سيارات مُرَقّمة بمُختلف المدن المغربية توافد أصحابها من مُختلف جهات المَملكة. اختلاف وتنوّع في اللكنات، واللّكنات تفضح المغاربة، مهما حاولوا التّكتم على انتمائهم الجغرافي.
وأنا مُتعبٌ بين صعود في عقبة وهبوط في مُنحدر، تائه وحائر. قلت لصاحب الفندق إنني جئت خصّيصًا لزيارة الشاعر الطبال، ولكن يبدو أنّني لن أتمكّن من لقائه هذه المرّة على غير العادة، لأنّني لم أجد غرفة في الفنادق التي بحثت فيها. سألته متوسّلا، في محاولة يائسة وأخيرة: “هل أجدُ عندك غرفة؟”. ضحك الشاب قليلا وخمّم كثيرًا، ثم قال لي مُبتسمًا، وقد حَسم أمره: “هاتفني مُرشد سيّاحي أن أحجز له غرفة لشخصين، وبما أنك جئت من أجل اللقاء بشاعر مدينتنا، سأتركها لك، وأتدبّر الأمر..”.
أكثر من ذلك زادت دهشتي حين سألته عن الثمن، فأضاف قائلا: “الثمن يكون عادة مُرتفعًا قليلا أيام الذّروة، ولكن من أجل عيون شاعرنا سأجعله مُنخفضًا”. شكرته وضحكنا معًا، ثم أخذت مفتاح الغرفة معي، وانصرفت. حين قصدتُ مَقهاه المُفضل، قال لي الزّبون إنه غادَره قبل لحظات. يا الله، ما لم أكن أتوقعُه، هيَ الحيرَة بذاتها. تردّدت بداية في الاتصال به، ولكني في الأخير فعلت. قلت مع نفسي: لا يمكن ألّا أراه بعد كل هذه المَتاعب. اتصلت به، فأجابني على الفور، كما يفعلُ دائمًا. قال لي في لطف الأصفياء من الضّفّة الأخرى: “في أيّ مقهى توجد أنت، وأين تحبُّ أن نلتقي…؟”. قلت له ضاحكًا: “يا مولانا الشاعر، أنت تأمُر، وأنا أنفّذ. المُهمّ أن تأتي، ومن ثمّ نلتقي…!!”
تم الاتفاق بيننا على اللقاء في المقهى الذي ألفتُ أن ألقاه فيه، وما هي إلا دقائق حتى حضر بكامل وقاره الإنساني والشعري. قال لي بصوته الخفيض: “كنتُ هنا قبل قليل، ولكنّني غادرتُ إلى البيت..”. قلت له بدوري: “عرفت ذلك من النادل، ولكن لم يكن معي خيارٌ آخر، غير ما فعلت”. اشترط عليّ مولانا الشّاعر ألا يُطيل لالتزامات أسرية، فقبلت. ومن جميل الصُّدف أيضًا أنه جاء ومعه إصدارُه الشعري الأخير: “في ضوءِ ابن عربيّ”، مَختومًا بتوقيعه. جلسنا معًا للحظات، دردشنا في الحياة كما في الشعر وأمور أخرى. حدثني عن سبب غيابي عن المدينة التي لم أزرقها منذ لعنة “كورُونا” وعن معرض الرباط للكتاب، وانطباعاته حول نسخته الأخيرة مقارنة بمعرض الدار البيضاء، وما رآه فيه من سلبيات وإيجابيات، قبل أن ينسحب مُعتذرًا. هي ذي طباع الشاعر الطبال، وهذا هو طبعه الأصيل، يعتذرُ دائمًا بصوته الخَفيض، حتى ولو كان هو المُحقّ وأنا المُخطئ. قبل ذلك، سألني عن صاحبه الشاعر محمد السّرغيني، وعن آخر أحواله الصّحية وعلاقاتهما القديمة المُشتركة مع الشاعر الراحل محمد الميموني. كانت لحظات قصيرة، ولكنها صادقة وطويلة بمثابة عُمْرِ شقيّ، مُمتعَة هي اللحظات التي تمرّث كالبرق برُفقته، ومُنعشة للروح والذاكرة. الشاعر عبد الكريم الطبال هو من دون شك ذاكرة شفشاون التاريخية، وهو عنوانُها ديوانُها وأحد فرسانها، وهو أيضًا بالإضافة إلى ذلك ذاكرة المغرب الشعرية.
مسجد أو جامع ” بُوزْعَافر”، كما يُسمّيه الشّفشاونيّون، بناهُ الإسبان، ولكن قاطعه المُصلّون من أهل الشّاوْن، هكذا تقول الرواية. لم تُقم فيه صلاة منذ مدة قديمة تمتد إلى زمن الاستعمار الإسباني، كما تقول روايات أخرى، استقيتُها من فئات واسعة همّت شريحة واسعة من سكان المدينة ومن مُختلف الأعمار. ولكنها تبقى مع ذلك معلومات عامة وشفهية، لا تستند على حقيقة أو مرجعية تاريخية. ولكن يبدون أنّ الجامع تصالح مع نفسه في السنوات الأخيرة، وبدأ يُرفع فوق مئذنته الأذان، وتُقام فيه الصلوات. ولكن هذه الصلوات تبقى “مُناسباتية”، كما قال لي أحدهم هناك، ونحن وقوف في عين المكان، والأذان يُرفع من مُكَبّر الصَّوت فوق الصومعة. لا يقصده الناس مثلا حين يكون الجَوّ مُثلجًا أو مُمطرًا، وأيضًا لا تقام فيه الصلاة إلا حين تكون السياحة في ذروتها، وفق ما قال لي شاب شفشاوني آخر.
هو مسجدٌ صغيرٌ، يقع فوق ربوة عالية تطل على المدينة من جهة الشرق. وحيدٌ وبعيدٌ، ويصبح أكثر وحشة وعزلة واغترابا حين تسوء الأحوال الجوية، وما أن يغيب عنه قرص الشمس، حتى ينفضّ الجميع من حوله. ولكن إطلالته الفوقية الجميلة على المدينة تدفع السياح من مختلف الأجناس إلى زيارته من أجل الاستمتاع برؤية منظر بانورامي جميل. فيه يرتاح العشاق إلى منظر غروب الشمس، وهي تغادر الأفق الغابوي المُمتدّ على جهة الغرب من المدينة الزرقاء ببُطء. حُمرة أخّاذة، ولوحة ربّانية تنطق في سكون بما وَهبها الخالق من حُسن الطبيعة، وجمالية فريدة من نوعها بتنوّع مُكوّناتها الطبيعية. ومن بين الحكايات التي سمعتها في المدينة، واحدة تقول إن الحاكم العسكري المُكَنّى “بوزعافر”، وتعني الشوارب الكثيفة في اللهجة الجبلية، هو من بنى الجامع بدعم من سلطات الاحتلال الإسبانية، بُغية استمالة السكان المحليين، ونيل عطفهم ورضاهم. وجاء في كتاب “من تاريخ شفشاون” لمؤلفه طه ابن فاروق الرّيسوني أنه “تمّ تشييد المسجد بأمر من الضابط فرناندو كابات”. وهذا الرأي يبقى واردا، ولكنه حسب رأيي بعيدٌ كل البُعد عن الحقيقة لعدة اعتبارات موضوعية:
1- المسجد صغير جدا، ولا يتسع في أحسن الأحوال لمائة مُصلّ أو أقل من ذلك.
2- الوُصول إليه يتطلب مجهودًا بدنيًّا ومشقّة كبرى، إن لم يكن مستحيلا، بالنسبة للمرضى والمسنين وصغار السن.
3- توجد حول المسجد مساكن قروية متفرقة، وسكان قليلون جدا، لا يتطلب عددهم بناء مسجد.
4- المَساجد في التصوُّر الدّيني المغربي تُبنى عادة في مكان منبسط وقريب من الناس لكي يكون الوصول إليها سهلا، وليس العكس.
وغيرها من الأسباب الأخرى المحدّدة لبناء المساجد، ليس في شفشاون خصوصًا وفي المغرب عمومًا، ولكن في العالم الإسلامي منذ القديم وإلى اليوم.
شفشاون مدينة جميلة بطبعها وطبيعتها وتاريخها، وهي لا تحتاج في ذلك إلى شهادة مني أو من أحد المُحبّين مثلي. ولذلك تبقى شهادتي فيها مجروحة. ولكن الأهم هو أن الإطلالة عليها من “جامع بوزعافر” ساعة الغروب مسألة لا ينبغي تفويتها، النظرة من تلك الرّبوة إلى شفشاون لحظة الغروب، وما دون ذلك، في باقي أيام الله بأيامها ولياليها، تجعلك أمام لوحة فنية فاتنة وسحر قصيدة شعرية مرئية. أما قصة “بوزعافر”، كما ترويها أغلب الحكايات والروايات الشفهية، فإنها في رأيي المُتواضع لا تغدو أن تكون من خيال مُبدعيها، لأن إسبانيا ليست لديها دراسات سوسيولوجية أو أنثروبولوجية في كيفية التعامل مع الأهالي في مُستعمراتها، عكس ما كانت عليه فرنسا في تعاملها مع الأفارقة عمومًا، ومع المغاربة في الجانب الديني خصوصًا. ويظهر ذلك جليًّا في المدن المغربية التي استعمرتها إسبانيا في الشمال: الناظور، الحسيمة وتطوان. فرنسا وإنجلترا كانتا على دراية بالجانب الأنثروبولوجي لشعوب مستعمراتها، كان نظام استعمارهما عكس النظام العسكري الإسباني، ولذلك لم يترك الاستعمار الإسباني وراءه في الشمال طرقا تذكر، ولا قناطر أو منشآت إدارية وفنية.
ومن هنا أعتقد أن بناء” جامع بوزعافر” كان في رأيي المتواضع من أجل تعذيب الأسرى والمقاومين والوطنيين، وليس بدافع ديني، وذلك بإرغامهم على حمل الحجارة والطوب والإسمنت من أسفل المدينة والوادي إلى ربوة عالية يصعب الوُصول إليها على الأقدام، فما بالك أن تصعد إليها وأنت مُحمّلٌ بأثقال على ظهرك من حجارة ومواد بناء. وربما اتخذ هذا الضابط بناء الجامع كنوع من العقاب والعذاب والتأديب، وجعله في الأخير نقطة مراقبة على مداخل شفشاون من جهات: الغرب، الشرق والجنوب. أما جهة الشمال، فهي مَحمية ومُحصّنة طبيعيًّا بواسطة جبال عالية، تستعصي على أجنحة الطيور، فما بالك بأقدام الإنسان…!!