انطلقت منذ يوم الأربعاء الماضي سلسلة من الوقفات والمبادرات الشعبية في عدد من المدن المغربية، استجابة لدعوات أطلقتها هيئات مدنية داعمة للقضية الفلسطينية. هذه التحركات الممتدة إلى غاية يوم الأحد، تأتي ضمن ما أُطلق عليه “أسبوع التعبئة الشعبية”، الذي يستهدف إعادة تسليط الضوء على القضية الفلسطينية باعتبارها مركزية في الضمير الجمعي المغربي، وفي مقدّمتها رفض التطبيع. وقد تنوعت أشكال الاحتجاج بين مظاهرات حضرية، وندوات فكرية، وخرجات رمزية في الساحات العمومية.
وعرفت مدن مغربية عديدة، مساء الجمعة، تنظيم وقفات احتجاجية متزامنة في أكثر من 20 مدينة، شارك فيها مواطنون من مختلف الفئات والشرائح، رافعين شعارات تعبّر عن مواقفهم المبدئية من القضية الفلسطينية. وقد عبّر المشاركون عن رفضهم لأي تقارب رسمي مع الكيان الإسرائيلي، مؤكدين أن نبض الشارع المغربي لا يزال يحتفظ بزخمه الرافض للتطبيع، مشدّدين على أن القضية الفلسطينية تظل حاضرة في صلب انشغالاتهم اليومية، بغض النظر عن المتغيرات السياسية.
تأتي هذه التعبئة الميدانية في سياق تراكم نضالي مستمر منذ شهور، تقوده عدد من الهيئات المعروفة بمواقفها الثابتة من التطبيع، وعلى رأسها المبادرة المغربية للدعم والنصرة، ومجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين، والجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع. وقد شدد المنظمون على أن هذه الدينامية لا تقتصر على المناسبات، بل تمثل امتداداً لتحركات متواصلة تهدف إلى تعزيز الحضور الشعبي في القضايا المصيرية، والضغط من أجل مراجعة السياسات التي لا تعكس، في نظرهم، المزاج العام للمجتمع المغربي.
ويُسجَّل أن صدى هذه الاحتجاجات تجاوز الحدود؛ إذ وصل، بطرق غير مباشرة، إلى الداخل الفلسطيني، ما يعكس التفاعل المتبادل والتأثير الرمزي الذي يمكن أن تحدثه التحركات الشعبية، حتى عبر المسافات والجدران السياسية.
قال راشيد فلولي، المنسق الوطني للمبادرة المغربية للدعم والنصرة، إن التحركات التي تنظمها كل من المبادرة المغربية للدعم والنصرة، ومجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين، والجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، تأتي في إطار أسبوع تعبوي يمتد من يوم الأربعاء إلى غاية الأحد.
وأوضح فلولي أن يوم الخميس شهد تنظيم مظاهرة وندوة فكرية، في حين عرفت مدن المملكة يوم الجمعة خرجات احتجاجية في 22 مدينة، تعبيراً عن التضامن مع القضية الفلسطينية ورفضاً للتطبيع.
وأضاف فلولي، ضمن تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن المغرب يُعد اليوم من بين أكثر خمسة شعوب في العالم خروجاً وتأييداً لفلسطين، مشدداً على أنه يمكن اعتبار المغاربة الشعب العربي الوحيد الذي يواصل التعبير الميداني المتواصل عن دعمه للقضية الفلسطينية، موردا أن “هذه الخرجات تُعد الحد الأدنى مما يمكن تقديمه لإخواننا في غزة، في ظل ما يتعرضون له من عدوان متواصل”.
وأوضح المتحدث ذاته أن هذه الخرجات الميدانية، التي تنظم منذ 7 أكتوبر إلى اليوم، تأتي في سياقين متوازيين: الأول يتجلى في الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني من طرف الكيان الصهيوني المحتل، والثاني يرتبط بمسار التطبيع الذي انخرط فيه المغرب منذ سنة 2020، والذي لا ينسجم، بحسبه، مع الموقف التاريخي والثابت للمملكة تجاه القضية الفلسطينية.
وذكّر المنسق الوطني لهيئة الدعم والنصرة بعدد من الأحداث التاريخية التي تجسّد الموقف الثابت للمغرب تجاه القضية الفلسطينية، من بينها إرسال تجريدة عسكرية مغربية للمشاركة في حرب أكتوبر 1973، وإنشاء مستشفى ميداني عسكري بقطاع غزة سنة 2018، إضافة إلى قرار المغرب سابقاً إغلاق مكتب الاتصال مع الكيان الصهيوني سنة 2000، وذلك في فترات لم تكن فيها الأوضاع قد بلغت المستوى الخطير الذي تعرفه اليوم.
وفي تفاعله مع سؤال حول ما إذا كانت هناك استجابة فعلية من الدولة لهذه الاحتجاجات المستمرة خارج إطار الخطابات والبلاغات الرسمية الصادرة عن وزارة الخارجية، قال راشيد فلولي إن هناك بالفعل مؤشرات على الاستجابة، تتجلى في تراجع واضح عن مسار التطبيع المبالغ فيه الذي طبع المرحلة التي سبقت 7 أكتوبر.
وأوضح أن تلك المرحلة كانت تشهد مخططات لفتح عدد من السفارات والقنصليات، بل إن زيارة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كانت مقررة، غير أن كل ذلك جُمّد، ولم يتبقَ سوى مكتب الاتصال الإسرائيلي الذي، حسب تعبيره، “يكاد لا يعمل”، مضيفا: “لم يتبقَّ إلا أن نسمع خبر إغلاقه”.
وشدد المصرح لهسبريس على أن المغرب مدعو للتراجع عن مسار التطبيع الذي تبنّاه، بما يتماشى مع مضامين خطب الملك محمد السادس، التي يؤكد فيها أن القضية الوطنية لا ينبغي أن تكون على حساب القضية الفلسطينية. ولفت إلى أن هذا التطبيع لم يُثمر أي مكاسب واضحة لقضية الصحراء، بل زاد من الغموض، مشيرا إلى ظهور بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة بجانب خرائط تُقصى منها الصحراء المغربية، وهو ما يثبت، على حد قوله، أن هذا المسار أقرب إلى الخسارة منه إلى المكسب.
محمود حريبات، صحافي فلسطيني رئيس مجلة “لَمّة صحافة”، أكد أنه يتابع باهتمام كبير التحركات والاحتجاجات التي يشهدها المغرب دعماً لفلسطين، واعتبرها مصدر فخر واعتزاز، صادرة عن شعب يبعد آلاف الكيلومترات عن غزة، لكنه لا يتوانى عن التنديد يومياً بالإبادة الجماعية، في مواجهة نظام سبق أن انخرط في مسار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
وقال حريبات ضمن تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية: “نحترم سيادة الدول على أراضيها، ونقدّر ما يقوم به الملك محمد السادس تجاه الفلسطينيين بصفته رئيساً للجنة القدس. لكن احتجاجات المواطنين المغاربة على الدولة تؤكد الأصالة والكرامة المتجذّرة في هذا الشعب”.
وأكد المتحدث أن مسار التطبيع الذي انخرط فيه المغرب إلى جانب مجموعة من الدول العربية، “يُضعف الوحدة العربية المطلوبة في ظل ما تعيشه فلسطين من مآسٍ”. ومع ذلك، شدد على أن لكل دولة سياقاتها الخاصة التي دفعتها إلى اتخاذ هذه الخطوة. وأوضح أن الفلسطينيين يدركون تماماً أن الدفاع عن حقهم مسؤوليتهم أولاً، لكنهم يعلمون أيضاً أن الشعوب العربية تقف إلى جانبهم، والشعب المغربي خير دليل على ذلك من خلال ما يقوم به اليوم من تحركات ونضالات ميدانية.
وعن السياق الذي تابع فيه ما يجري في المغرب، قال محمود حريبات إن مجلة “لمّة صحافة” تهتم بكل ما له صلة بفلسطين سواء داخلها أو خارجها، وتحرص على تسليط الضوء على كل المبادرات والتحركات المرتبطة بالقضية. وأضاف أنهم لاحظوا، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ما تقوم به بعض الحركات المغربية في هذا الاتجاه، وحرصوا على متابعتها بشكل منتظم والكتابة عنها باستمرار.
وحول ما إذا كان هناك تواصل مباشر مع ممثلي الحركات الثلاث التي تنظم هذه الاحتجاجات في المغرب، ذكر مدير “لمّة صحافة” أنه لم يتم أي تواصل رسمي معهم، لكنه أشار إلى أن المجلة تحدثت مع عدد من الزملاء الصحافيين وأصدقاء بالمغرب، الذين أرسلوا لهم صوراً حية وحصرية من هذه الخرجات، مما أتاح لهم مواكبة دقيقة لما يجري على الأرض.
سناء حمودي، رئيسة منصة “موفر أمعي” الفلسطينية، أوضحت أنها لم تكن على دراية بالاحتجاجات التي ينظمها المغاربة ضد التطبيع مع إسرائيل حتى زيارتها إلى فرنسا حيث شاركت في المنتدى المتوسطي للصحافة. هناك، التقت بمجموعة من الصحافيين المغاربة الذين أطلعوها على هذه التحركات، بعدما كانت تلومهم وتعبّر عن استغرابها عدم قيام الشعب المغربي بأي تحرك ضد التطبيع، بل واعتقادها أن المغاربة ساهموا فيه. هذا النقاش جعلها تدرك حجم التعبئة الشعبية في المغرب دعماً للقضية الفلسطينية.
وقالت حمودي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إن أي خطوة تقوم بها الشعوب العربية في خدمة القضية الفلسطينية تُعد دعماً مباشراً للفلسطينيين، وتُسهم في إيصال أصواتهم إلى العالم، كما تعكس البُعد الروحي والوجداني للقضية، باعتبارها من الثوابت الأساسية لدى المسلمين.
وأضافت المتحدثة ذاتها أن المغرب يُعد من بين الدول التي تميزت تاريخياً بمواقف داعمة للقضية الفلسطينية، مشيرة إلى أن الملك الراحل الحسن الثاني ساهم في ترسيخ هذا الموقف في قلوب المغاربة، وفق ما اطلعت عليه في قراءاتها. واستحضرت أن المغرب كان من الدول التي لم يكن متوقعاً أن تُقدم على خطوة التطبيع مع الكيان الصهيوني.
وأشارت الإعلامية ذاتها إلى أن المغرب يسعى للتوفيق بين موقفه الداعم لفلسطين وعلاقاته مع إسرائيل، مذكّرة بأنه كان من بين أوائل الدول التي بادرت، خلال العام الماضي وفي ذروة العدوان، إلى إدخال مساعدات للفلسطينيين عبر معبر رفح. وأشارت إلى أن العاهل المغربي لا يزال يمارس مهامه رئيسا للجنة القدس كلما استدعت التطورات ذلك، غير أن مسار التطبيع، على حد تعبيرها، قد يُقيد هذا الدور ويحد من أثره الفعلي. وأكدت أن الاحتجاجات الشعبية التي يشهدها المغرب تعيد إحياء هذا الالتزام وتمنحه زخماً متجدداً.
وذكرت المتحدثة لهسبريس أن المغرب بلد يحتضن طوائف متعددة، من مسلمين ويهود وغيرهم، في إطار من التعايش والاحترام المتبادل، وأن هذا التنوع لا يتعارض مع انتماء المغرب العربي العميق، بل يعززه، معتبرة أن هذا البُعد يجب أن ينعكس في السياسات والمواقف الرسمية.
وتابعت بأن الفلسطينيين، في ظل الأزمات المتكررة، أدركوا أن الاعتماد على الأنظمة لم يعد مجديًا، وأن المسؤولية الأساسية تقع على عاتقهم. ومع ذلك، فإن مواقف الشعوب، مثل ما يُبديه المغاربة من تضامن واحتجاجات، تُعد سندًا معنويًا كبيرًا يعيد الأمل في تحقيق العدالة.
وختمت سناء حمودي تصريحها لهسبريس بالتنويه إلى أن استمرار الشعب المغربي في التعبير عن دعمه للقضية الفلسطينية يُعيد توجيه البوصلة نحو القيم المشتركة، ويُبرز أهمية التضامن الشعبي في مواجهة التحديات السياسية.