يكتب كوبريت كمن يحاور الغياب بأطراف أصابعه، كمن يتحسّس ندوب العشق في اللغة، ويختبر رهافة المعنى في عالمٍ يزداد صلابةً كل يوم. في شعره، تنحني الكلمات برفق، تتهجّى هشاشتها الخاصة، تحاول أن تصير امتدادًا للجسد، للذاكرة، للمجهول الذي يسكن كل العشّاق والتائهين في مجرّات الحنين.
سعيد كوبريت كائنٌ يمشي بين الكلمات كما يمشي السائر على خيوط ضوءٍ غير مرئية، محاطا بظلال أفكاره التي تتراقص في فوضى المدى الرحب. في عينيه، تتأمل الكاميرا نفسها، وتبصر قصائد الحياة بكل مراراتها وحلاوتها، وقد تكسو ملامحه تلك اللمسة الخفية التي تذكرنا بأن كل من يتحدث عن العالم هو في الوقت ذاته جزءٌ منه.
إنه الإعلامي الذي يقف على ضفاف الزمن، حيث يراقب الفكرة وهي تتحول إلى صدى، ثم تتناثر في الهواء كما حروف مجهولة تنتظر من يكتشف مغزاها. لكن إلى جانب الصحافي الذي يكتب ويتكلم، هناك الشاعر الذي ينسج من المدى قصة تختلط فيها الحقيقة بالخيال، وكأن الكلمات تنمو بأشجار غريبة لا تعترف بالأزمنة.
ليس سعيد كوبريت شاعرًا فقط، بل هو إعلامي منخرط في معمعان اليومي وتفاصيله، كيف يمنح للصوت جرسه العميق، كيف يجعل من الحوار ساحةً لاكتشاف الإنسان قبل اكتشاف آرائه..
هو ابن الإذاعة، ابن الميكروفون الذي لا ينقل فقط، بل يصغي، يستدعي، يحاور، يفسح المجال للمعنى كي يتردّد بين الصمت والكلام.
في الإذاعة، يمارس كوبريت فنّ الإنصات العميق، كأن الصوت عنده ليس مجرد ذبذباتٍ عابرة، بل كيانٌ ينبض بما وراء الجملة، بما لا يُقال لكنه يظلّ حاضرًا بين السطور.. في الإعلام، كما في الشعر، يبحث عن ذلك الحيّز السريّ بين الضجيج والصمت، حيث تولد الحقيقة أكثر شفافيةً، وأكثر قابليةً للانطفاء في أي لحظة.
في عوالمه الشعرية تبدو اللغة حالة وجودية يكتبها كمن يشيّد ملاذًا مؤقتًا من العزلة، ويتحدث بها كمن يبحث عن صوتٍ أكثر عمقًا داخل الجموع. في الإعلام، ينحاز إلى سلطة الحوار على سلطة الضجيج، وفي الشعر، يفضّل الإيماءة على الجملة الفائضة، كأن المعنى الأعمق دائمًا هناك، في الهامش، في المسكوت عنه، في الظلال التي تتراقص بين الجملة والصمت الذي يليها.
ليس كوبريت مجرّد صوت في الإذاعة، ولا مجرّد شاعر في العزلة، بل هو كائنٌ يعبر بين ضفّتين، يحمل الحكايات من جهة إلى أخرى، يجرّب أن يكون الصوت والصدّى في آنٍ معًا.. قصيدته تشبهه تماما، تأتي دوما ممشوقةً كحلمٍ يسير على حدّ الحقيقة، شفّافةً كحنينٍ يتمنّى لو لم يكن كذلك، مضيئةً كحوارٍ بين عاشقين يخشيان أن يكون الغدُ عاديًا أكثر مما يجب. في كل خطوة من خطواته، يبدو كوبريت وكأنه يعيد تعريف العلاقة بين الصحافة والإبداع، بين التوثيق والتأمل، فهو ليس مجرّد ناقل للخبر، بل مؤرخ للنبض الإنساني العابر في تفاصيل الزمن، ينحاز للحكاية العميقة، للبعد الجمالي في اللغة، وللرؤية التي تتجاوز السطح إلى الغور الدفين حيث تستريح الحقيقة.
على الأثير، يمزج بين النثر والإيقاع الداخلي، وكأن كلماته ترتدي معطفاً شعرياً حتى وهي تحكي وقائع الواقع. وعلى منابر الإعلام، يبدو كمن يؤثث الفضاء بنكهة الحكاية، يمنح اللغة وهجها، ويعطي للفكرة بعدها الوجودي. سعيد كوبريت ليس مجرد اسم في عالم الصحافة المغربية، بل هو ذاكرة متجددة تنبض بلغة تصنع الدهشة، وصوت يأبى أن يكون عابراً في زمن يعجّ بالسطحية.
في صوته، كما في نصّه، هناك ارتعاشةُ الحكاية التي لم تُكتمل بعد، والبوح الذي يظلّ معلقًا بين الشفتين والريح. كائنٌ يمشي بين الكلمات كما يمشي السائر على خيوط ضوءٍ غير مرئية، محاطا بظلال أفكاره التي تتراقص في فوضى المدى الرحب. في عينيه، تتأمل الكاميرا نفسها، وتبصر قصائد الحياة بكل مراراتها وحلاوتها، وقد تكسو ملامحه تلك اللمسة الخفية التي تذكرنا بأن كل من يتحدث عن العالم هو في الوقت ذاته جزءٌ منه.
إنه شاعرٌ يكتبُ بعينِ صحافيّ، وصحافيّ يتكئُ على رهافة شاعرٍ، لا يرى الكلمات مجرد أصوات، بل معابر نحو المعنى.