أصبح التوجيه المدرسي اليوم موضوعًا يستوجب التوقف عنده بعمق، خاصة في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع وسوق الشغل، حيث تزداد الحاجة إلى إعادة النظر في مدى نجاعة هذا التوجيه، وقدرته على مرافقة المتعلمات والمتعلمين نحو اختيارات تتلاءم مع قدراتهم وطموحاتهم الفردية.
ويثير موضوع التوجيه المدرسي نقاشا حول الأدوار المشتركة، التي يُنتظر أن تضطلع بها الأسرة والمؤسسة التعليمية والمحيط المجتمعي في مواكبة التلميذ والطالب خلال مسار دراسته بشكل عام، وفي محطّة اتخاذ القرار بشكل خاص، حيث يبقى تطوير آليات التوجيه وتجاوز التحديات المرتبطة به من الرهانات الأساسية المطروحة بإلحاح على مختلف المتدخلين.
هشام أودادس، مستشار في التوجيه التربوي، قال إن “التوجيه المدرسي يعتبر من الركائز الأساسية للعملية التعليمية التعلمية، وذو أهمية قصوى للمنظومة التربوية بصفة عامة، وبالتالي فإن التوجيه بمختلف عملياته ومستوياته ومدخلاته يلامس بشكل مباشر حياة التلميذ
والطالب، ويساهم بنسبة مهمة في تحقيق النجاح المدرسي لمختلف فئات المتعلمين من المتفوقين والمتميزين والمتوسطين والمتعثرين، من خلال مساعدة كل فئة على تحديد اختياراتها الدراسية والتكوينية المناسبة لقدراتها واهتماماتها وميولاتها الشخصية في ارتباط وثيق بالجانب السوسيوثقافي والاقتصادي للمتعلمين والمتعلمات”.
من جهة أخرى، أوضح المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “التوجيه المدرسي يرسم للتلميذ والطالب صورة المشهد الاقتصادي وسوق الشغل في ارتباطها الوثيق بمخرجات المؤسسات التعليمية والتكوينية بمختلف مشاربها وتلاوينها، ويساعده على رسم أهم المسارات الدراسية والتكوينية، التي بإمكانه السير فيها قدما من أجل النجاح في الحياة العملية، والتي هي الغاية الأسمى من العملية التعليمية التعلمية”.
وأكد أن “مجهودات جبارة تبذلها أطر التوجيه التربوي إلى جانب باقي مكونات المدرسة العمومية المغربية، أي التوجيه التربوي المؤطر والواعي، تحت إشراف رسمي لأطر التوجيه التربوي شبه الغائب عن المدرسة الخصوصية، من أجل الرقي بالتوجيه المدرسي في السياق التربوي المغربي”، مضيفا أنه “رغم ما حملته وتحمله تفاعلات المنظومة التربوية من مستجدات لها جانب كبير من الإيجابية في الظرفية الحالية، فإن واقع التوجيه، بفعل العديد من الإكراهات، يغلب عليه طابع المناسباتية والمقاربات التقنية”.
ومن بين هذه الإكراهات ذكر المستشار في التوجيه التربوي “ارتفاع معدلات التأطير، وارتفاع عدد المؤسسات المسندة لأطر التوجيه التربوي، وتباعد الثانويات والإعداديات عن بعضها البعض، كما أن غالبية الثانويات الإعدادية والتأهيلية لا تتوفر على فضاءات للتوجيه المدرسي والمهني، مع عدم توفير العدة المكتبية لأطر التوجيه، وعدم تخصيص تعويضات عن تنقل أطر التوجيه التربوي بين مؤسسات القطاعات المدرسية وباقي التنقلات”.
قال أودادس إن “تطوير التوجيه المدرسي لتحقيق نتائج أفضل يتطلب توفير العنصر البشري الكافي من أطر التوجيه التربوي، وهو ما تم التأكيد عليه في البرنامج الحكومي الخاص بقطاع التربية الوطنية من خلال تخريج 4 أفواج يضم كل منها 350 مستشارا في التوجيه التربوي، وبالفعل تخرج فوجان، أما بالنسبة للفوج الثالث (فوج 2025/2027) فقد تم تقزيم العدد من 350 إلى 30 مستشارا فقط”.
وأشار إلى ضرورة “توفير وسائل العمل وفضاءات مجهزة خاصة بالتوجيه المدرسي والمهني بكل المؤسسات العمومية من أجل توفير بيئة العمل الملائمة لممارسة فعل الاستشارة في التوجيه التربوي بكل أبعادها”، و”العمل على تزويد منظومة التوجيه المدرسي بمعطيات دقيقة ومحينة بالنسبة لسوق الشغل في ارتباطه بالتوجهات الاقتصادية والاجتماعية ومخرجات مؤسسات ومعاهد التكوين والتعليم العالي”، و”إشراك أطر التوجيه التربوي في تطوير سياسات الوزارةفي مجال التوجيه المدرسي وفي بناء دلائل المواكبة التخصصية والأطر المرجعية الخاصة بالتوجيه”.
ولفت أودادس إلى أهمية “إيجاد بيئة تربوية حاضنة لمنهجية العمل بالمشروع الشخصي للمتعلم على مستوى المؤسسات التعليمية، مع مراعاة الخصوصية المغربية والفوارق المجالية بين مختلف جهات المغرب من أجل ضمان تنزيل سليم لبيئة حاضنة للتوجيه المدرسي في إطار منطق التفريد وخصوصية كل متعلم”، و”ضمان تنزيل أفضل لعمليات التوجيه المدرسي المبكر لتفادي الضغط الذي يتعرض له التلاميذ والتلميذات وأطر التوجيه خلال محطات التوجيه الأساسية”.
وطالب بـ”تقليص عدد المسالك الدراسية بالنسبة للتعليم الثانوي التأهيلي وتجميع المسالك المتقاربة لأن العدد الهائل لهاته المسالك يؤرق التلاميذ والتلميذات ويشوش على اختياراتهم بشكل ملحوظ، علما أن ضبط هاته المسالك بكل تلاوينها يصعب حتى على أطر التوجيه التربوي”.
وشدد المستشار ذاته على ضرورة “الاهتمام بفعل التوجيه المدرسي بالنسبة للمدرسة الابتدائية، خاصة بالنسبة للسنتين الخامسة والسادسة ابتدائي، حيث تمت برمجة مرحلة الاستئناس بالمشروع الشخصي للمتعلم”، لافتا إلى “تغييب محطة خاصة بالتوجيه بالنسبة للسنة السادسة ابتدائي، حيث يتم توجيه التلاميذ والتلميذات بشكل آلي دون الرجوع إلى اختياراتهم ما بعد هذا المستوى”، وأبرز أن “مهام مستشاري التوجيه التربوي محصورة في تقديم خدماتها للثانوي بسلكيه الإعدادي والتأهيلي بمختلف شعبه ومسالكه العديدة والمتعددة والمتشعبة إلى أبعد الحدود”.
يرى جبير مجاهد، باحث تربوي، أن “التوجيه المدرسي يلعب دورًا أساسيا ومصيريا في الحياة الدراسية للتلميذ لكونه يشكل بوصلة توجههم ومنار طريقهم الدراسي، بل يساعدهم على اكتشاف ميولاتهم بهدف اتخاذ قرارات بخصوص توجههم الدراسي والمهني، خاصة مع نهاية المرحلة الثانوية، حيث يكون التلميذ مطالبا باتخاذ قرار مصيري يؤثر في حياته الدراسية والمهنية، سواء بشكل إيجابي أو سلبي”.
وأضاف المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “التوجيه المدرسي يكتسي أيضا بالغة من خلال تقديم معلومات دقيقة ومبسطة حول التخصصات الدراسية والمهنية، ويساعده على اختيار المسار الذي يتماشى مع قدراته وطموحاته”.
واستدرك قائلا إن “منظومة التوجيه المدرسي في المغرب تواجه تحديات متعددة في الوقت الراهن، لعل أبرزها ضعف الفاعلية والنجاعة، وهو ما أشار إليه المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، إضافة إلى ضعف التتبع الدقيق للمتعلمين واكتشاف مواهبهم ومنحهم فرصة لابرازها”.
وختم جبير مجاهد توضيحاته لجريدة هسبريس بالتأكيد على أنه “في الوقت الراهن لا بد من تتبع التلميذات والتلاميذ واكتشاف ميولاتهم من طرف الآباء، وفتح قنوات للحوار معهم، ولم لا التوجه إلى المراكز الخاصة، التي أضحت تلعب دورا مهما في هذا السياق”.
المصطفى صائن، رئيس الفيدرالية الوطنية المغربية لجمعيات آباء وأمهات وأولياء التلاميذ، أكد أن “لا أحد ينكر دور التوجيه في نجاح المسار الدراسي، والحد من نسبة الفشل والهدر المدرسي، والرفع من جودة التعلمات من خلال الملاءمة بين ميولات المتعلمين وقدراتهم الشخصية من جهة، ومحتويات المناهج والبرامج المدرسية من جهة أخرى”، مضيفا أن “الإعلام والمساعدة على التوجيه تحظى بأهمية في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، خصوصًا في المخطط الاستعجالي الذي أفرد له مشروعًا كاملاً هو مشروع (E3 P7) المتعلق بوضع نظام ناجع للإعلام والمساعدة على التوجيه”.
ولفت صائن إلى أن “مشاكل المدرسة العمومية وإكراهاتها لم تُتِح الفرصة لهذا المشروع لكي يحقق جميع أهدافه ويستفيد من الإمكانيات المادية والبشرية التي خُصصت له”، مضيفا أن “الحاجة تبقى ملحة للارتقاء بنظام الإعلام والمساعدة على التوجيه من خلال الاستفادة من أطر الدعم النفسي والاجتماعي، التي يمكنها القيام بتوجيه القرب، خاصة أن إعلام التلاميذ بالمسارات الدراسية وحده لا يكفي، بل يجب مساعدتهم على التعرف على ميولاتهم وقدراتهم الشخصية، ومصاحبتهم في تنميتها. كما يجب استثمار ملتقيات التوجيه لكي تلعب دورًا فعّالًا في هذا المجال، وألا يطغى عليها الجانب التجاري”.
وأكد المتحدث، في تصريح لهسبريس، أن “أصعب ما يواجه التلاميذ هو عدم القدرة على حسم الاختيار بسبب عجزهم عن الإجابة بدقة عن سؤال: من أنا؟ وماذا أريد؟.. لأن لديهم ضبابية حول ذواتهم وحول مستقبلهم، وهذه الضبابية تُكثّفها التطورات السريعة لسوق الشغل وتحديات التكنولوجيات الجديدة، خصوصًا بالنسبة للتلاميذ الذين لم يستفيدوا من تربية أسرية داعمة في طفولتهم، أو لم يتمكنوا من الاستفادة من المساعدة على التوجيه بسبب ظروف عيشهم أو مسارهم الدراسي”.
وتابع قائلا: “الأسرة تلعب دورًا أساسيًا في تدريب أبنائها وبناتها على حسن اتخاذ القرارات الحياتية عمومًا، والمسارات الدراسية خصوصًا، ويبدأ هذا منذ الطفولة، ولن يتحقق إلا باعتماد مقاربة تشاركية وتشاورية في التربية، وترسيخ ودعم مبدأ السببية في عقولهم بأن لكل نتيجة سببًا موضوعيًا يتحملون فيه المسؤولية كليًا أو جزئيًا”، مشيرا إلى أن “الأسرة التي تعاقب الحائط لأنه صدم ابنها تربي أبناءً لا يتحملون مسؤولية أي شيء، ويتخذون قرارات مصيرية بالنسبة لمستقبلهم عن طريق القرعة”.
وختم رئيس الفيدرالية الوطنية المغربية لجمعيات آباء وأمهات وأولياء التلاميذ توضيحاته بالإشارة إلى أن “الأسرة تتحمل مسؤولية توفير بيئة تتسم بالثقة بين أفرادها، كما يجب عليها مساعدتهم على استكشاف ميولاتهم مبكرًا من خلال اللعب، والزيارات الاستكشافية للمهن والفنون، كزيارة الورشات، وإتاحة الفرصة للاحتكاك بأصحاب المهن، أو زيارة الأطباء والصيادلة وشرح أدوارهم والإمكانات التي تتيحها هذه المهن في الحياة لأن المدرسة وحدها لا تتيح هذه الفرص”.