في الوقت الذي تتزايد وتيرة التطورات المرتبطة بقضية الصحراء المغربية، يكثف وزير الخارجية ناصر بوريطة تحركاته الدبلوماسية على أكثر من جبهة، ضمن جولة شملت الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، قبل أن يحط الرحال بسلوفينيا، الجمعة، بالتوازي مع الزخم الجديد الذي عكسته إحاطة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا أمام مجلس الأمن، التي أعادت الملف إلى واجهة الاهتمام الدولي.
ناصر بوريطة الذي يتحرك على أكثر من واجهة دبلوماسية، في جولة بدأت بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، مرورا بإستونيا ومولدافيا وكرواتيا ثم بلاد المجر (هنغاريا) وأخيرا إسبانيا، التقى خلالها عددا من نظرائه خلال أيام قليلة، في لقاءات تناولت العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية، وعلى رأسها ملف الصحراء المغربية.
وفي سلوفينيا، التي تشغل مقعدا غير دائم في مجلس الأمن، أجرى بوريطة مباحثات مع نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الشؤون الخارجية السلوفينية، تانيا فايون، الجمعة، تناولت مستجدات الملف، ومواقف الدول الأعضاء من المبادرة المغربية للحكم الذاتي في سياق دعم المسار السياسي الذي تقوده الأمم المتحدة.
وتأتي هذه التحركات الدبلوماسية بعد تأكيد دي ميستورا على وجود أرضية مشتركة يمكن البناء عليها، مشيدا بـ “التعاون الجاد والبنّاء” من جانب المغرب، في إحاطة اعتُبرت دفعة جديدة للعملية السياسية المتعثرة منذ سنوات.
وتراهن الرباط، على خلفية هذا الحراك، على توسيع دائرة الدعم الإقليمي والدولي لمبادرتها، وتحرص على مواكبة الزخم الأممي بمقاربة قائمة على التحرك الميداني وتثبيت المكاسب، في الوقت الذي تتجه الأنظار إلى مخرجات المرحلة المقبلة من جهود الأمم المتحدة بشأن النزاع مقابل تراجع الخطاب التقليدي للطرح الانفصالي، وتقلص هامش المناورة لدى الأطراف الداعمة له داخل المنتظم الدولي.
وتعليقا على الحراك الدبلوماسي الذي يقوده بوريطة، يرى إبراهيم بلالي اسويح، عضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، أن الجولة الدبلوماسية التي قادها وزير الشؤون الخارجية، وشملت سبع دول أوروبية في ظرف زمني لم يتجاوز خمسة أيام، تمثل انعكاسا واضحا لانتقال الدبلوماسية المغربية إلى مرحلة جديدة من الحركية المتقدمة، انسجاما مع التوجيهات الملكية الداعية إلى الانتقال إلى السرعة القصوى في الدفاع عن القضايا الاستراتيجية للمملكة، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية.
وأوضح اسويح، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذا الحراك يتجاوز كونه مجرد تحرك اعتيادي ليعبر عن تحول نوعي في مقاربة الدبلوماسية الملكية، التي لم تعد تكتفي بانتظار تفاعل الأطراف الدولية مع جهود الوساطة الأممية، بل باتت تتقدم الصفوف لفرض منطقها الواقعي على الساحة الدولية، تزامنا مع إحاطة المبعوث الأممي دي ميستورا أمام مجلس الأمن، التي شكلت بدورها لحظة فارقة في المسار السياسي للنزاع.
وأوضح المحلل السياسي أن مضمون هذه الإحاطة الأممية، التي استبعدت بشكل واضح خيار الاستفتاء وكل البدائل غير الواقعية، اعتُبر مكسبا دبلوماسيا مهما للمغرب، وانتكاسة في الوقت ذاته للطرح الانفصالي المدعوم جزائريا، مبرزا أن “ذلك ترافق مع دعم سياسي متزايد من عواصم أوروبية وازنة، في مقدمتها باريس ومدريد، مرورا بتالين وزغرب وبودابست؛ وهو ما يعكس تحولا في بوصلة القرار الأوروبي باتجاه المغرب”.
وبخصوص مواقف الدول الأوروبية، كشف اسويح أن المقاربة الجديدة لهذه الدول باتت ترتكز على منطق “الشراكة الاستراتيجية” في أبعادها المتعددة، خصوصا على مستوى الأمن والدفاع، في ظل إدراك متزايد للدور المحوري الذي يلعبه المغرب في الحفاظ على الاستقرار جنوب المتوسط، باعتباره بوابة رئيسية نحو العمق الإفريقي، وفاعلا أساسيا ضمن رؤية حلف شمال الأطلسي لتعزيز منظومة الردع في المنطقة.
ولفت المحلل ذاته الانتباه إلى أن تجديد الإعلان المشترك مع عدد من هذه الدول، ضمنها دول شمال وشرق أوروبا مثل إستونيا، يعزز الطابع الشمولي للتحرك المغربي من الناحية الجيوسياسية، خاصة أن العديد من هذه الدول سبق لها أن واجهت تهديدات انفصالية، كما هو الحال مع هنغاريا وأوكرانيا، وهو ما يجعلها أكثر تفهما للطرح المغربي ولمخاطر تقسيم الكيانات الوطنية.
وأكد اسويح أن هذا البعد الجيوـ استراتيجي في التحرك المغربي بات يفرض نفسه حتى على أجندة الأمم المتحدة، التي بدأت تساير الحلول الواقعية، وتبتعد عن التسويات الشعبوية التي لا تأخذ بعين الاعتبار منطق تبادل المصالح، الذي أصبح المحدد الأول في العلاقات الدولية في ظل النظام العالمي الجديد.
وفي السياق ذاته، قال المحلل السياسي ذاته إن الجزائر باتت تواجه اليوم ضغوطا متزايدة، مشيرا إلى أن عليها أن تنخرط في هذا التوجه الدولي أو تتحمل تبعات تعنتها، الذي قد ينتهي بإعلان فشل المسار الأممي، وفتح الباب أمام قوى دولية فاعلة لتدبير الملف، مع احتمال تصنيف جبهة البوليساريو تنظيما إرهابيا، خاصة في ظل المعطيات التي كشفت عن علاقاتها مع إيران وحزب الله، والتقارير التي صدرت عن مراكز أبحاث أميركية بهذا الشأن.
علاقة بمجلس الأمن، أشار اسويح إلى أن زيارة بوريطة الأخيرة للولايات المتحدة، ثم سلوفينيا العضو غير الدائم بمجلس الأمن، تؤكد وجود وعي مغربي دقيق بطبيعة المتغيرات الدولية، وقدرة الرباط على إعادة بناء تحالفات قائمة على مبدأ “رابح- رابح”، من خلال توظيف الأقاليم الجنوبية كمركز استراتيجي لاستقبال الاستثمارات والتحالفات متعددة الأطراف، خصوصا مع تنامي الاهتمام الدولي بمشاريع التعاون جنوب الأطلسي.
وأضاف عضو “الكوركاس” أن الزخم السياسي الذي يشهده ملف الصحراء المغربية حاليا يؤشر على دخول النزاع الإقليمي مرحلة الحسم، في ظل تآكل مبررات الطرح الانفصالي، وتزايد القناعة الدولية بأن مبادرة الحكم الذاتي المغربية هي الإطار الوحيد القابل للتنفيذ، في ضوء التحولات الجيوسياسية الكبرى، وانخراط الشركاء الدوليين في منطق استقرار دائم يقوده حليف موثوق به هو المملكة المغربية.
من جهته، أبرز خالد الشيات، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الحسن الأول بوجدة، أن المقاربة المغربية في تدبير ملف الصحراء المغربية تقوم على دبلوماسية هادئة وواقعية تستند إلى مرجعيات تاريخية وحضارية راسخة، وتنبني على احترام منطق التوازن والاحترام المتبادل في علاقاتها الخارجية، دون تبني منطق الهيمنة أو التصعيد.
وأوضح الشيات، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن المغرب يشتغل وفق رؤية متعددة المستويات، تجمع بين التحرك السياسي الفعال والتنسيق المستمر مع الدول الشريكة، إلى جانب تراكم الدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي، التي باتت تحظى باعتراف واسع باعتبارها الحل الجدي والوحيد لهذا النزاع الإقليمي المفتعل.
وفي هذا الإطار أشاد الشيات بجولة ناصر بوريطة لعدد من العواصم الأوروبية، لافتا الانتباه إلى أنها تجسد دينامية دبلوماسية متقدمة تعكس قدرة المغرب على إعادة بناء تحالفاته الإقليمية وفق منطق براغماتي متزن، قبل أن يضيف أن “اللقاءات التي عقدها الوزير مع نظرائه الأوروبيين أظهرت مؤشرات واضحة على التحول الإيجابي في مواقف هذه الدول إزاء قضية الصحراء المغربية، خاصة في ظل تنامي إدراك دور المغرب المحوري في الاستقرار الإقليمي”.
وسجل أن عددا متناميا من الدول أصبحت تتعامل مع هذه القضية من منطلق دعم السيادة والوحدة الترابية للمملكة، من خلال افتتاح قنصليات بالمدن الجنوبية للمملكة أو عبر مواقف دبلوماسية واضحة، في الوقت الذي باتت بعض الأطراف الداعمة للطرح الانفصالي تجد نفسها في مأزق داخلي يحدّ من قدرتها على المجازفة بخيارات عسكرية غير واقعية.
وختم الشيات حديثه لهسبريس بالتأكيد على أن قوة المبادرة المغربية تكمن في طابعها العملي، وتوافقها مع منطق الحلول السياسية التي تنادي بها القوى الكبرى، مشيرا إلى أن “غياب أي تصور واضح من الجانب الجزائري يجعل من الصعب التقدم نحو تفاوض فعلي ما لم يتم تقديم بديل جدي يمكن إدراجه في إطار تفاوضي موحد وقابل للحسم”.