يتناول فيلم “كونكليف” (The Conclave)، “الاجتماع السري”، “المجمع المقدس” من إخراج المخرج المرموق إدوارد بيرغر (Edward Berger) مواضيع معقدة مثل السلطة والإيمان والأخلاق، على خلفية اجتماع سري لانتخاب البابا. ويربط الفيلم هذه المواضيع بمهارة، مكوناً نسيجاً من التساؤلات حول طبيعة السلطة والحالة الإنسانية. ويتمحور السرد الفيلمي حول انتخاب بابا جديد، مع تمثيل كل كاردينال لجوانب مختلفة من الكنيسة وطموحاته الشخصية. وقد استحق هذا الفيلم جائزة أحسن سيناريو في أوسكار 2025.
يستند “كونكليف” كفيلم سياسي إلى رواية الكاتب البريطاني روبرت هاريس التي نُشرت عام 2016. وتستند الرواية والفيلم إلى أحداث حقيقية وقعت داخل الفاتيكان حيث يجتمع الكاردينالات لانتخاب البابا الجديد بعد وفاة البابا السابق. وهذه العملية تُعرف باسم “الاجتماع السري”، وهي عملية مغلقة تتم خلف أبواب مغلقة ولا يُسمح لأحد من الخارج بمعرفة تفاصيلها.
ويعرض الفيلم كيف أن هذه العملية ليست مجرد عملية دينية، بل أيضًا عملية سياسية معقدة تتداخل فيها المصالح الشخصية والطموحات السياسية للكاردينالات. ويمثل الكاردينالات في الفيلم مختلف التيارات السياسية داخل الكنيسة، من المحافظين الذين يسعون للحفاظ على التقاليد القديمة إلى الإصلاحيين الذين يسعون لتحديث الكنيسة وجعلها أكثر توافقًا مع القيم الحديثة.
ويعرض الفيلم أيضًا كيف أن الكنيسة الكاثوليكية ليست معزولة عن العالم الخارجي، بل جزء من النظام السياسي العالمي، وتعكس هذه الصراعات السياسية التي تحدث في العالم الخارجي، حيث يسعى كل طرف لتحقيق مصالحه الخاصة.
يتناول فيلم “كونكليف” موضوعات متعددة، ويبرز فيه بشكل خاص البعد السياسي المتعلق بالسلطة والديبلوماسية. وتتمحور القصة حول عملية انتخاب بابا جديد للفاتيكان بعد وفاة البابا السابق، وهو حدث يفتح الأبواب أمام الكثير من التوترات والمنافسات السياسية داخل الجدران المغلقة للفاتيكان. ويتناول الفيلم تأثير السلطة على المجتمع، حيث يتمتع البابا الجديد بسلطة توجيه المؤمنين وتحقيق التغيير. ويؤثر اختياره على مستقبل الكنيسة الكاثوليكية وعلى العالم بأسره، حيث يعتقد الكاردينال (جوزيف تريمبلاي) أن “الأسرار هي أساس السلطة، لكنها أيضاً مصدر للخوف”.
ويظهر “كونكليف” كيف يمكن للسلطة أن تكون وسيلة لتحقيق الخير أو الشر، وكيف يعتمد ذلك على القادة واستخدامهم لهذه السلطة. وتتجلى السلطة السياسية في الفيلم بتصوير الكرادلة ليسوا كقادة دينيين فقط، بل يحملون أدوارًا سياسية مهمة. ويحاولون تحقيق التوازن بين الإيمان والمصالح السياسية، ويمكن أن يتعرضوا لضغوط من الحكومات والقوى العالمية. ويحاول بعض الكرادلة استخدام نفوذهم السياسي لتحقيق أهداف شخصية أو جماعية، مما يضيف بعداً آخر لتجربة السلطة.
وتؤدي السلطة إلى صراعات داخلية بين الكرادلة، تنشأ عنها تنافسات وتحالفات، ويستخدم البعض وسائل ملتوية لتحقيق النفوذ. وهذه الصراعات تبرز الجانب المظلم من السلطة، حيث يمكن أن تتسبب في فساد وتلاعب لتحقيق المكاسب الشخصية. ويوضح الفيلم كيف يمكن أن يكون للسلطة تأثير تدميري على العلاقات والشخصيات.
ويتناول “كونكليف” أيضًا القضايا الأخلاقية المرتبطة بالسلطة، حيث يجب على الكرادلة التفكير في كيفية استخدام سلطتهم بأمانة وعدل. وتضطرهم الظروف لاتخاذ قرارات مصيرية تؤثر على الملايين. ويظهر الفيلم كيف يمكن أن تكون السلطة اختباراً للقيم والمبادئ، وكيف يمكن للضغوط والمغريات أن تؤدي إلى إفساد الأخلاق. كما يعرض نظرة عميقة على مفهوم السلطة في إطار ديني وسياسي، ويبرز التحديات والصراعات التي يمكن أن تواجه القادة عند استخدام السلطة.
وتتجلى السلطة في الفيلم عبر مختلف أشكالها: السلطة الروحية، السلطة السياسية والسلطة الشخصية. وتبرز السلطة الروحية في كيفية تأثير الكنيسة على الجماهير الكاثوليكية حول العالم، فيما تلعب السلطة السياسية دورًا حاسمًا في كيفية تفاعل الكرادلة مع بعضهم البعض ومع القوى الخارجية.
أحد الجوانب البارزة في الفيلم هو التركيز على الولاءات المتعددة والعلاقات المتشابكة والمعقدة التي تميز علاقة الكرادلة ببعضهم البعض. ويتم تقسيم الكرادلة إلى مجموعات وفصائل، كل منها يسعى لتحقيق أهدافه الخاصة وتعزيز نفوذه. وتكون الولاءات أحيانًا مبنية على القناعات الدينية، ولكن في كثير من الأحيان تكون محكومة بالمصالح الشخصية والسياسية.
في إطار الفاتيكان المغلق تبدو اللعبة السياسية أكثر تعقيدًا من أي مكان آخر. ولا تقتصر المناورات السياسية على التصويت فقط، بل تشمل أيضًا الحوارات السرية والتحالفات المؤقتة والخدع السياسية. وحسب الكاردينال سبادين، فإن “السلطة الحقيقية لا تأتي من الألقاب، بل من الأفعال التي نقوم بها”. ويجسد الفيلم هذا الجانب من خلال مشاهد الحوار المكثف والمناورات السياسية التي تتسم بالكثير من التوتر والإثارة.
وتتجلى السلطة في أوضح صورها في الصراع على القيادة، فكل كاردينال يطمح ليكون البابا الجديد، وهذا الطموح يفتح الأبواب أمام المؤامرات والدسائس. ويسعى كل كاردينال لكسب تأييد الكرادلة الآخرين من خلال تقديم الوعود واستغلال نقاط ضعف الخصوم وحتى استخدام التكتيكات الأكثر دهاءً لتحقيق أهدافه.
والسلطة في الفاتيكان ليست فقط مسألة تولي المنصب الأعلى، بل أيضًا مسألة توازن بين الحفاظ على التقاليد والبحث عن التجديد. ويعكس الفيلم هذا البعد من خلال الشخصيات المختلفة التي تمثل التيارات المتنافسة داخل الكنيسة: تيار التقليديين المحافظين الذين يسعون للحفاظ على الوضع القائم، وتيار الإصلاحيين الذين يدعون إلى التغيير والتجديد. وحسب الكاردينال ألدو بيليني، “في لعبة السلطة لا يوجد مكان للضعفاء” .
ويكشف الفيلم كيف أن السعي وراء السلطة يمكن أن يقود إلى اختبارات أخلاقية حادة. ويضع الكرادلة أنفسهم في مواقف صعبة تتطلب منهم اتخاذ قرارات مصيرية قد تؤثر على مصير الكنيسة والمجتمع الكاثوليكي بأكمله يلبس لونا أحمر فاقعا وبدلالة هذا اللون وحضوره الطاغي في أجزاء الفيلم.
في فيلم “The Conclave” السلطة ليست مجرد لعبة سياسية، بل عملية معقدة تتداخل فيها المصالح الشخصية والسياسية والدينية. ويعكس الفيلم كيف يمكن أن تكون السلطة سلاحًا ذا حدين: يمكن أن تقود إلى التحسين والإصلاح أو إلى الفساد والانقسامات. وهذا البعد السياسي العميق يجعل من فيلم “كونكليف” عملًا سينمائيًا يستحق التأمل والدراسة.
إيقاع الفيلم متعمد، يسمح بالكشف التدريجي عن دوافع الشخصيات والمناورات السياسية داخل الفاتيكان، حيث تتطور القصة في بيئة محدودة، ومع ذلك تظل تحافظ على إحساس بالتوتر والاستعجال، مما يعكس المخاطر العالية المرتبطة بعمليات الانتخاب. وتعمل الأجواء الضيقة للاجتماع السري كرمز للنضالات الداخلية للشخصيات وثقل قراراتها.
يتميز أسلوب المخرج إدوارد بيرغر بالانتباه الدقيق للتفاصيل والقدرة على خلق أجواء غامرة، فهو معروف بعمله، كما في أفلامه جاك (2014) و”كل حبي” (2019) و”كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” (2022)، بتعقيدات القصة وبتغيير الأماكن والنهايات غير المتوقعة. وفي أفلامه السابقة غالباً ما يستكشف مواضيع الهوية، السلطة والعدالة الاجتماعية، وهذه موضوعات واضحة في أعماله كما في فيلمه “كونكليف”.
وتتميز أفلام إدوارد بيرغر بسرد بصري قوي، مع التركيز على التكوين والإطار. ففي فيلم “الاجتماع السري” يستخدم اللقطات القريبة والإضاءة الاستراتيجية لتسليط الضوء على الحالة العاطفية للشخصيات وثقل اختياراتها. ويعزز هذا النهج الإحساس بالحميمية، مما يجذب الجمهور إلى عوالم شخصياته.
الشخصيات في فيلم “كونكليف” متطورة بشكل غني، كل منها لديه خلفياته الفريدة ومعضلاته الأخلاقية. البطل، الكاردينال طوماس لورانس، يخدم كبوصلة أخلاقية للفيلم. رحلته هي رحلة من التأمل والتساؤل حول الماكينة السياسية للاجتماع السري. وتحفل التفاعلات والحوارات بين الشخصيات في “الاجتماع السري” بالدلالات الرمزية والجوانب الفلسفية. أحد هذه الحوارات البارزة يتم تقديمه بواسطة الكاردينال طوماس لورانس، الذي يقول إن “السلطة ليست عباءة ترتديها بخفة؛ إنها عبء يختبر قوة الروح”. ويلخص هذا الحوار موضوع الفيلم المركزي حول الوازع والوزن الأخلاقي للقيادة.
ويوفر الخصم، الكاردينال ألدو بيليني، نقطة مقابلة لموقف طوماس لورانس الأخلاقي، فطموحاته وتكتيكاته الماكرة تخلق توتراً دينامياً يدفع السرد الفيلمي نحو الأمام. وإعلان ألدو بيليني “في ظلال الإيمان تُصنع السلطة ” يسلط مزيدا من الضوء على الجوانب المظلمة لصراعات السلطة في الاجتماع السري.
تعاون المخرج إدوارد بيرغر مع الممثلين محوري لنجاح الفيلم بخلق بيئة داعمة تشجع الممثلين على الغوص في أعماق وتفاصيل شخصياتهم. وتنتج عن هذا أداءات قوية ودقيقة، مع كل ممثل يجلب حضوراً مميزاً لدوره. وتكمن قدرة المخرج في استخراج مثل هذه الأداءات بسبب مهارته في توجيه الممثلين وفهم دقيق لحرفته.
يتناول الفيلم الأبعاد الاجتماعية والرمزية للكاردينال طوماس لورانس، وتقصي مواضيع الفداء والتضحية والسعي إلى الحقيقة. ويتم تصوير شخصية الكاردينال طوماس لورانس كمنارة للنزاهة والقوة الأخلاقية لتعكس صورة مصنوعة بعناية في صراعه الداخلي والتزامه الثابت بمبادئه.
ويتناول “كونكليف” أيضاً قضايا اجتماعية أوسع مثل تأثير الدين على السياسة والتحديات الأخلاقية التي يواجهها الذين يكونون في مواقف السلطة. ويتطرق الفيلم لهذه المواضيع بتناغم، مما يدفع الجمهور للتفكير في تقاطعات الإيمان والحكم والسياسة.
تعزز تقنيات إدوارد بيرغر البصرية في “الاجتماع السري” التأثير العاطفي للسرد الفيلمي وعمقه الموضوعاتي، باستخدامه لوحة ألوان هادئة وإضاءة متباينة بين الضوء والظل لخلق إحساس بالجدية والتأمل. واستخدام الظلال والتباينات يضيف طبقات من المعنى إلى تفاعلات الشخصيات، مما يبرز غموضها الأخلاقي وصراعاتها الداخلية.
وقد اختار المخرج إدوارد بيرغر زوايا الكاميرا والحركات ليعزز السرد الفيلمي بشكل أكبر. وتعكس اللقطات المتتالية البطيئة والمقصودة حالات تأمل الشخصيات، بينما تعزز الحركات الدينامية خلال لحظات المواجهة الكثير من التوتر، مما يساهم في إتقان المخرج للجماليات البصرية بشكل واضح في كل إطار، ويمنح الفيلم الكثير من التماسك الفني والأصالة.
ويمزج سيناريو فيلم “كونكليف” (سيناريو بيتر ستراوجان)، وهو درس ممتع في فن السرد، بين الخطاب الفلسفي والدراما المثيرة، حيث تبدو الحوارات مصممة بعناية، كل جملة تساهم في تطوير الشخصيات والمواضيع المرافقة لها. وتكمن قدرة السيناريو على تحقيق التوازن بين التأمل والزخم السردي. وقد نال إشادة كبيرة من النقاد، وفاز بجائزة أفضل سيناريو في جوائز أوسكار 2025.
ويشمل أحد المشاهد البارزة تبادلاً حاداً بين طوماس لورانس وألدو بيليني، حيث يتحدى طوماس لورانس طموحات ألدو بيليني بفن الخطابة وحكمتها “لا تكمن القيادة الحقيقية في السعي إلى السلطة، بل في خدمة الآخرين”. ويجسد هذا القول جوهر الأخلاق في الفيلم، ويعزز دور لوملي كمرساة أخلاقية للقصة، مضيفا أن “الإيمان ليس مجرد عقيدة؛ إنه رحلة داخلية نحو الحقيقة”.
“كونكليف” هو تحفة سينمائية تغوص في تعقيدات السلطة والإيمان والأخلاق لإبراز براعة المخرج إدوارد بيرغر في الإخراج، إلى جانب الأداءات المذهلة والسيناريو المحفز للتفكير، مما يخلق فيلماً يتردد على مستويات متعددة، تجوب الشخصيات خلالها رحلات بآفاق من الجماليات البصرية والأبعاد الاجتماعية والرمزية. وتساهم هذه الموارد الفنية في خلق تجربة سينمائية غنية وغامرة. من خلال استكشافه لاجتماع الفاتيكان السري يدفع الفيلم الجمهور للتفكير في التعقيدات الأخلاقية للقيادة والسعي الدائم للحقيقة.