كشفت زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو للعاصمة الجزائرية، أمس الأحد، في أول تحرك دبلوماسي من نوعه منذ أزيد من ثمانية أشهر من الجمود بين البلدين، عن رضوخ جزائري واضح للشروط التي كانت قد حددتها باريس خلال المكالمة الهاتفية التي جمعت بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون أواخر مارس الماضي.
وفي هذا الصدد، أجرى بارو لقاء مطولا دام ساعتين ونصف ساعة مع الرئيس الجزائري، أعرب في ختامه الجانبان عن “إرادة مشتركة لطي صفحة التوترات الأخيرة والدخول في مرحلة جديدة من الشراكة المتكافئة والهادئة”. كما شدد وزير الخارجية الفرنسي، في تصريحاته عقب اللقاء، على أن “التعاون سيستأنف فورا في جميع المجالات، بما يعكس رغبة الطرفين في تجاوز الأزمة عبر مقاربة عملية ومباشرة”.
تدخل فرنسا جولة التقارب الجديدة من موقع قوة، واضعة شروطا اعتبرها مراقبون “خطوطا حمراء” في الحوار، من أبرزها التأكيد الصريح على ضرورة عدم التدخل في شؤونها الداخلية، ورفض أي محاولة لربط علاقاتها الثنائية مع الجزائر بملفات إقليمية. كما شددت باريس على أن “تطوير العلاقات مع الجزائر لا يمكن أن يكون على حساب شراكاتها الاستراتيجية”؛ في إشارة صريحة إلى كل ما يتعلق بالمملكة المغربية التي ترتبط مع فرنسا بعلاقات تاريخية وثيقة.
وعلى صعيد آخر، استحضرت الدوائر الجزائرية بقلق واضح تطور العلاقات المغربية الفرنسية خلال الأشهر الأخيرة، خاصة بعد تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدين، والتقارب الدبلوماسي الذي تُوّج بدعم باريس لمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، وهي الخطوة التي تعتبر مصدر “إزعاج” للطرف الجزائري، الذي ظل يراهن على موقف فرنسي “محايد” في هذا النزاع الإقليمي المفتعل.
بعد أن رفضت في مناسبتين سابقتين استقبال الوزير بارو، عادت الجزائر لتفتح قنوات الحوار تحت ضغط الضرورة الدبلوماسية، وبعد عزلة متزايدة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتراجع هوامش المناورة، خصوصا في ملف الطاقة والهجرة، لضمان الحد الأدنى من المصالح المشتركة مع الجانب الفرنسي، الذي يتبنى مقاربات براغماتية مبنية على الاحترام المشروط في التعامل مع الدول الصديقة.
جان نويل بارو التقى أيضا نظيره أحمد عطاف بمقر الخارجية الجزائرية، حيث دارت المباحثات حول قضايا الذاكرة، والهجرة، والتعاون الأمني، والطاقة، وركّز الجانبان على ضرورة استعادة الثقة في حوار “صريح ومسؤول”، مع بحث آليات لتنزيل برنامج عمل مشترك في آجال زمنية محددة، مع استحضار ملف الكاتب الفرنسي بوعلام صنصال، المحتجز في الجزائر، باعتباره أحد العناوين البارزة للتوتر الأخير.
قال الدكتور عبد الفتاح البلعمشي، رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، إن الأسباب الرئيسية التي أدت إلى التوتر بين الجزائر وفرنسا خلال الأشهر الماضية لا يمكن أن تكون محل اختلاف، حيث إن الموقف الفرنسي من قضية الصحراء المغربية كان محوريا في تصعيد الأزمة بين البلدين.
وأكد البلعمشي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن فرنسا سواء من خلال رئاسة الجمهورية أو مؤسساتها السيادية، عبّرت بوضوح عن دعمها لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وهو ما تجلى في الرسالة التي بعث بها الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش، وكذا في الخطاب الذي ألقاه داخل البرلمان المغربي، حيث شدد على أن “حاضر ومستقبل الصحراء بالنسبة لفرنسا لن يكون إلا تحت السيادة المغربية”، مبرزا أهمية “المواقف المتواترة الصادرة عن عدد من المسؤولين الفرنسيين، مثل رئيس مجلس الشيوخ ووزيرة الثقافة رشيدة داتي، الذين أكدوا خلال زيارتهم للأقاليم الجنوبية انخراط فرنسا في الدينامية الدولية المؤيدة لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية”.
كما لفت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض بمراكش الانتباه إلى أن “زيارة وزير الخارجية الفرنسي للجزائر تكشف في جوهرها رضوخا جزائريا لشروط باريس التي وُضعت خلال الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الفرنسي والجزائري، خصوصا فيما يتعلق بعدم التدخل في الشؤون الداخلية الفرنسية، وعدم ربط علاقاتها الثنائية مع الجزائر بمواقفها من المغرب وقضاياه السيادية”.
وسجل أن “الجزائر وجدت نفسها مضطرة لتقديم تنازلات للحفاظ على حدّ أدنى من المصالح المشتركة، وعلى رأسها قضايا الهجرة والطاقة ووضعية الجالية الجزائرية في فرنسا، وهو ما يترجم فعليا حدود قدرة الجزائر على التأثير في مسار العلاقات الفرنسية الخارجية، خصوصا حين يتعلق الأمر بمصالح باريس الاستراتيجية”.
وعرج المتحدث ذاته على مخرجات الزيارة، مشيرا إلى أن “فرنسا حسمت في موضوع الدور الجزائري في ملف الصحراء المغربية، وفصلت بوضوح بين علاقاتها الثنائية مع الجزائر وموقفها السيادي من النزاع، مستندة إلى اعتبارات تاريخية واستراتيجية تتعلق بملكية الأرشيف المرتبط بالمنطقة وعمق الروابط مع المغرب”.
وأبرز أن “الموقف الفرنسي يضرب في الصميم كل الجهود الجزائرية الرامية إلى إدامة النزاع، ويضعف الأطروحة الانفصالية التي باتت تعاني من تراجع ملحوظ على الساحة الدولية”، لافتا الانتباه إلى أن “الجزائر تلقت هذه الرسائل الفرنسية بوعي كامل، ولو على مضض، مما يجعلها في موقع المتلقي وليس صانع القرار في هذه المرحلة”.
وختم البلعمشي حديثه لهسبريس بالتأكيد على أن “المعادلة الجديدة في شمال إفريقيا تُعيد التوازن لصالح المغرب، وتعكس دينامية متقدمة في العلاقات المغربية الفرنسية، مقابل علاقات جزائرية فرنسية محكومة بسقوف سياسية لا يمكن للجزائر تجاوزها”، مشيرا إلى أن “استمرار الدول الكبرى، وفي مقدمتها فرنسا، في تبني مواقف واضحة من مغربية الصحراء يجعل هذا الموقف عنصرا حاسما في بناء الشراكات الاستراتيجية للمملكة، ويؤشر على مكاسب حقيقية بدأت تتحقق على الأرض، سواء على مستوى الأمم المتحدة أو عبر علاقات ثنائية ناجعة مع القوى الدولية المؤثرة”.
يرى عبد الوهاب الكاين، نائب منسق تحالف المنظمات غير الحكومية الصحراوية، أن زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو للجزائر تشكل إعادة انبعاث عسير للعلاقات السياسية والدبلوماسية الفرنسية الجزائرية، بعد أشهر من التوتر الحاد، مشيرا إلى أن “هذا التوتر طالما انعكس سلبا على استقرار منطقة شمال إفريقيا بسبب إصرار الجزائر على ربط خلافاتها الثنائية بالنزاع حول الصحراء المغربية”.
وأضاف الكاين، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الجزائر بنت عقيدتها الدبلوماسية على معاداة وحدة المملكة المغربية، وهو ما يجعل أي موقف داعم لمقترح الحكم الذاتي سببا كافيا لتفجير علاقاتها مع شركائها الدوليين، كما وقع مع إسبانيا قبل أشهر، لافتا إلى أن “رهان الجزائر على المواقف الخارجية في تأجيج النزاع قد فشل”.
وبخصوص الممارسات المرتبطة بالمس بحقوق الإنسان، أبرز المتحدث ذاته أن “اعتقال الكاتب الفرنسي ذي الأصل الجزائري بوعلام صنصال يكشف تناقض الدبلوماسية الجزائرية، التي ترفض ترحيل مواطنيها من فرنسا بدعوى حماية مصالحهم، لكنها لا تتورع عن التنكيل بمن يعبر عن رأي مخالف داخل ترابها”.
ولفت الكاين الانتباه، ضمن تصريحه، إلى أن الشروط التي فرضتها باريس على الجزائر لاستئناف العلاقات تعكس موقفا صارما، في مقدمتها “إطلاق سراح الكاتب، وعدم التدخل في شؤون فرنسا، واحترام تحالفاتها الدولية، خاصة ما يرتبط منها بالمغرب”.
وعن الجانب الحقوقي، أوضح رئيس منظمة “أفريكا ووتش” أن ما يعيشه الشعب الجزائري من تقييد للحريات وقمع داخلي يتطلب وقفة جادة، مشيرا إلى أن “صمت باريس عن الانتهاكات لا يجب أن يكون ثمنا لإعادة تطبيع العلاقات”.
وأردف قائلا: “الدبلوماسية الجزائرية خسرت الكثير بسبب عدائها المفرط للمغرب، وكان الأولى بها أن تبحث عن صيغ مشتركة لحل النزاع عوض الاستقواء بالخارج ومحاولة فرض مواقفها على الشركاء الدوليين”.
وختم حديثه لهسبريس بالتأكيد على أن “المغرب ماضٍ بثبات في تعزيز شراكاته الاستراتيجية، خصوصا مع فرنسا، في الوقت الذي باتت الجزائر أمام واقع جديد يفرض عليها مراجعة اختياراتها الدبلوماسية، لأن العداء المجاني للمغرب لم ولن يكون بديلا عن رؤية عقلانية تحقق مصالح الشعب الجزائري”.