خلال شهر رمضان من كل عام تشهد المساجد إقبالًا كثيفًا، خاصة في صلوات المغرب والعشاء والتراويح والفجر، حيث تمتلئ بيوت الله وتمتد صفوف المصلين، غير أن هذا المشهد سرعان ما يتغير بعد انتهاء شهر الصيام، إذ يُلاحظ تراجع ملحوظ في أعداد رواد المساجد، ما يثير تساؤلات حول العوامل التي تؤدي إلى هذا التفاوت الواضح بين رمضان وبقية أشهر السنة.
ويفتح هذا التحوّل باب النقاش من زوايا نفسية واجتماعية ودينية، إذ يُطرح تساؤل حول الأسباب التي تجعل المصلي يجد صعوبة في الحفاظ على انتظامه في الصلاة داخل المسجد بعد رمضان، كما يُثار نقاش حول السبل التي تعين النفس على المواظبة على عمارة بيوت الله طيلة العام، ومدى تأثير العادات الرمضانية في تعزيز الالتزام الديني ثم تراجعها بعد انتهاء الشهر.
مصطفى السعليتي، أستاذ علم النفس الاجتماعي، قال إن “ظاهرة التراجع في العبادات بعد شهر رمضان تُعد من السلوكات المتكررة التي يمكن ملاحظتها عبر السنوات، إذ يختلف التدين في هذا الشهر عن باقي أشهر السنة”، موضحا أن “هذا الأمر يرجع إلى مجموعة من العوامل التي تتداخل في ما بينها، ومنها ما هو مرتبط بالثقافة الدينية في المجتمع المغربي، ومنها ما هو مرتبط بالجانب السيكولوجي للفرد”.
وأشار السعليتي، في تصريح لهسبريس، إلى أن “أحد الأسباب الأساسية لهذا التباين هو التنشئة الدينية التي تشكل جزءًا من التنشئة الاجتماعية في المجتمع المغربي”، موردا أنه “منذ الطفولة يتلقى الأفراد رسائل متكررة تؤكد أن شهر رمضان هو شهر العبادات والغفران، وهذه الصورة الذهنية تجعل السلوك الديني في رمضان يتسم بطابع خاص، حيث يزداد الإقبال على الصلوات وأداء العبادات، وكأن هذا الشهر هو الفرصة الكبرى لتعزيز الممارسات الدينية”.
وأكد الأستاذ الجامعي ذاته أن “فكرة ‘الضمير الجمعي’ تلعب دورًا أساسيًا في تشكيل السلوك الديني للأفراد”، موضّحا أن “التنشئة الدينية لا تتم فقط على المستوى الفردي، بل تمتد إلى المحيط الاجتماعي الذي يعزز هذا الشعور الجماعي بأهمية الالتزام الديني خلال رمضان، وهذا الشعور يجعل الأفراد أكثر حرصًا على الامتثال للسلوك الجماعي، لأن أي خروج عنه قد يسبب لهم قلقًا نفسيًا أو شعورًا بالذنب، خاصة عندما يكون الشخص في بيئة تُجمع على ممارسة العبادات”.
واستحضر المتحدث ذاته “تحليل بول باسكون” حول “الشخصية المغربية المركبة، التي قد تعيش تناقضات على مستويات متعددة، سواء دينية أو اجتماعية”، مؤكّدا أنه “يوجد أشخاص لا يصلون طوال السنة ولكنهم يلتزمون بالصلاة والعبادة خلال رمضان، وهذه الخصوصية تعكس طبيعة التفاعل بين القيم الدينية والواقع الاجتماعي، حيث يصبح الالتزام الديني خلال رمضان جزءًا من الهوية الجماعية التي يصعب على الفرد تجاهلها، بل إن البعض يشعر وكأنه ارتكب خطأ إذا لم يلتحق بالجماعة في ممارساتها الدينية”.
ومن جانب آخر ذكر السعليتي أن “هناك ما يمكن وصفها بعلاقة غير متوازنة أو حتى مرضية مع الدين لدى بعض الأفراد، إذ نجد أشخاصًا ينخرطون في سلوكات غير دينية طوال السنة، مثل شرب الخمر أو عدم أداء العبادات، لكنهم خلال رمضان يوقفون هذه الممارسات بشكل مؤقت، ثم يعودون إليها بعد انتهاء الشهر”، مشيرا إلى أن “هذا التحول السريع يعكس تعقيد العلاقة بين التدين والسلوك الاجتماعي، حيث يصبح رمضان بمثابة فترة استثنائية تُفرض فيها قواعد صارمة سرعان ما تتلاشى بعد انقضائه”.
وختم أستاذ علم النفس الاجتماعي، رئيس شعبة علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض بمراكش، توضيحاته قائلا: “بناءً على العوامل المذكورة يمكن القول إن التغير في السلوك الديني بين رمضان وباقي السنة ليس مجرد مسألة فردية، بل هو نتاج شبكة من العوامل الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية التي تؤثر على طبيعة التدين في المجتمع المغربي”.
محمد لبيتي، خطيب جمعة وباحث في الفكر الإسلامي، قال إن “شهر رمضان يشهد إقبالًا كبيرًا على مظاهر التدين، وليس فقط من خلال حضور المساجد، بل في مختلف العبادات”، مُرجعًا هذا الإقبال إلى أسباب شرعية واجتماعية ونفسية، قائلا إن “الله سبحانه وتعالى يهيئ أجواءً خاصة لهذا الشهر المبارك، فتُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفّد الشياطين، ما يعزز روح الطاعة”.
وأضاف لبّيتي، في تصريح لهسبريس، أن “الجانب الاجتماعي يلعب دورًا مهمًا في زيادة التدين، إذ يؤثر التدين الجماعي في تعزيز الالتزام بالعبادات، فالمؤمن قوي بأخيه، وعندما يشاهد الناس هذا الإقبال الجماعي فإن ذلك يشجعهم على الاستمرار في الطاعة”، مشيرا إلى أن “الاهتمام العام والخاص برمضان يساهم في تكثيف مظاهر التدين ويخلق أجواءً محفزة على العبادة”.
وأكد الخطيب ذاته أن “الاستعداد النفسي له دور أساسي في هذا الإقبال، إذ يشكل رمضان فرصة لمراجعة الذات وإصلاحها، ويكون الإنسان أكثر استعدادًا للتغيير خلال هذا الشهر، ما يدفعه إلى الاجتهاد في العبادات، إلا أن هذا الإقبال يشرع في التراجع بعد ليلة السابع والعشرين، فيتناقص مؤشر حضور المساجد بعد انتهاء رمضان، ما يعكس ضعف الوعي بضرورة استمرار التدين بعد هذا الشهر”.
وأفاد المتحدث ذاته بأن “كثيرًا من الناس يتعاملون مع رمضان كعادة أكثر منه عبادة، فلو كان الأمر عبادة خالصة لاستمر التدين بعد رمضان كما هو خلاله”، مردفا بأن “الله سبحانه وتعالى رب الشهور كلها، وليس رب رمضان فقط، ولهذا يحث العلماء على أن يكون الناس ربانيين لا رمضانيين”، ومنبّها إلى أن “الغاية من الصيام هي تحقيق التقوى والاستمرارية في الطاعة بعد انتهاء الشهر الفضيل”.
كما جاء ضمن توضيح محمد لبيتي أن “الصيام والقيام وقراءة القرآن ليست عبادات خاصة برمضان، بل ينبغي الحفاظ عليها طوال العام”، مضيفا أن “صيام ستة أيام من شوال، وصيام الإثنين والخميس، وصيام الأيام البيض، يساعد في استمرار روح الصيام؛ كما أن قيام الليل مستحب في غير رمضان، وقراءة القرآن يجب ألا تكون موسمية، بل جزءًا من منهج حياة المسلم”.
وأكد خطيب الجمعة أن “الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يدعون الله قبل رمضان أن يبلغهم إياه، وبعده أن يتقبله منهم، ما يدل على أن روح رمضان ينبغي أن تستمر بعد انتهائه”، وزاد: “رغم أن الكثيرين يعودون إلى عاداتهم السابقة بعد رمضان فإن هناك من يحافظون على التدين، وهذه من بركات الشهر الفضيل، إذ تترك بعض الممارسات الدينية أثرًا مستمرًا في حياة المسلمين”.
وختم لبيتي توضيحاته بالإشارة إلى أن “التراجع عن مظاهر التدين بعد رمضان يعكس أيضًا قصورًا في خطاب العلماء والدعاة، الذين ينبغي أن يركزوا على تعزيز الوعي بضرورة استمرار الطاعة”، موردا أن “مسؤولية الدعاة ليست فقط توجيه النقد لمن يبتعد عن المساجد بعد رمضان، بل تقديم خطاب يشجع الناس على الحفاظ على روح التدين، ويجعل علاقتهم بالعبادة مستمرة على مدار العام”.