“الجعرة” كلمة تتردد في أحاديث الأمهات كأنها شبح غامض يطارد الأطفال الصغار، فتجعلهم يصرخون بلا سبب، يفقدون شهيتهم، أو تلاحقهم نوبات من البكاء الليلي. في ثقافة الأجداد، هي عين حاسدة، ريح شريرة تسكن الجسد الهش، أو ربما أثر “روع” وهلع لم يفك بعد.
في غياب تفسير مقنع لنوبات الصراخ الحاد لدى الأطفال، تلجأ الأمهات إلى الرقية الشرعية، ومجالس “الفقها” ذلك الطقس العلاجي العابر للزمن، بحثا عن شفاء عجزت عنه العقاقير الطبية، آملات أن تكون تلك الجلسة بداية جديدة، ويعود الطفل ليأكل ويركض، وينام ويضحك، بلا خوف ولا قلق.
داخل شقق سكنية ومحلات تجارية، في عدد من المدن والقرى، وعلى المنصات الرقمية، تقبل فئات مختلفة من المغاربة على طلب وسائل “الرقية”؛ بحكم صعوبة الولوج إلى العلاج الطبي بالمستشفيات، إلى جانب غلاء تكلفته بالمصحات الخاصة، وغياب تغطية صحية لعموم المواطنين، إلى جانب استعصاء بعض الأمراض المزمنة على الطب العصري؛ وهي عوامل مجتمعة تزج بالمرضى إلى أحضان العرافين في انتظار شفاء قد يأتي كما قد لا يبرز بالمرة.
الدكتور كمال الزمراوي، أستاذ علم النفس بجامعة القاضي عياض بمراكش، قال إن ما يعرف بـ”الجعرة” في التداول العامي أو العصبية المفرطة المصحوبة بنوبات من الغضب والصراخ الشديد يعد من أكثر المشكلات السلوكية شيوعا لدى الأطفال الصغار، مبرزا أن وتيرة حدوثها وشدتها تميل إلى التراجع تدريجيا مع نمو الطفل، حيث يكتسب مهارات أفضل في التحكم بانفعالاته والتكيف مع محيطه.
وأضاف أستاذ علم النفس الاجتماعي، في تصريح لجريدة هسبريس، أن نوبات الصراخ والغضب لدى الطفل الرضيع تعد ظاهرة طبيعية؛ بل قد تعكس مؤشرا على قوة الشخصية الناشئة من تعلم كبح الغضب. فالعصبية لدى الأطفال هي استجابة انفعالية وسلوكية متعددة الأسباب، قد تكون فيسيولوجية، نفسية، أو اجتماعية. كما أن هذه العوامل تختلف باختلاف المرحلة العمرية، إذ تتباين دوافع العصبية بين الرضيع والطفل في سن الثانية أو الثالثة.
وأورد الأكاديمي المغربي ذاته أن عصبية الرضيع قد تزداد على اعتبار أن الصراخ هو وسيلته الوحيدة للتعبير عن احتياجاته، أو نتيجة شعوره بالألم أو معاناته من مشكلة جسدية. أما الطفل البالغ من العمر سنتين، فقد تنبع عصبيته من افتقاده للاهتمام والحب الكافيين؛ في حين أرجع عصبية الطفل البالغ ثلاث سنوات إلى سوء المعاملة الوالدية أو التوتر في بيئته الاجتماعية.
كما أشار أستاذ علم النفس الاجتماعي إلى أن الصراخ المفرط قد يكون من أعراض الاضطرابات النمائية العصبية، خاصة في حالات ضعف اللغة ومهارات التواصل؛ مثل التوحد أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، حيث يعاني الطفل المصاب بهذه الاضطرابات من صعوبة في الامتثال للأوامر والتوجيهات، ويظهر رد فعل عصبي عدائي تجاهها، مما يؤدي إلى حالات من العصبية التي تتجسد في بكاء وصراخ شديد.
وأضاف المتحدث متابعا: “عندما تكون عصبية الطفل مفرطة وتصبح عرضا مقلقا، يصبح من الضروري اللجوء إلى العلم من خلال اتباع مسارات تدخلية تهدف إلى مساعدة الطفل في تقليل أو القضاء على حدة عصبيته، من خلال عرضه على أطباء مختصين في الصحة الجسدية، ثم على أخصائيين نفسيين إذا كانت الحاجة ملحة، وكانت أسباب نوبات الصراخ لدى الطفل ذات طابع نفسي. ويتم بعد ذلك وضع خطة محكمة تبدأ بتحديد المشكلة، ثم تفسير أسبابها، تليها اقتراح الحلول المناسبة وفقا لطبيعة الحالة.
وزاد: إلا أن هذا المسعى يواجه في مجتمعنا عوائق مرتبطة ببنية ذهنية سائدة تؤمن بأن العصبية الشديدة أو “الجعرة” الزائدة عند الأطفال، بل وحتى الاضطرابات النفسية والعقلية، هي ظواهر غير سوية وغير طبيعية، ويربطها البعض بحالات السحر والمس والعين الشريرة والمعتقدات التي تترسخ في المخيال الشعبي مثل “أم الصبيان”. ومن هنا، تترسخ فكرة مفادها أنه بمجرد زيارة ضريح أو زاوية أو سماع تعويذة في جلسة رقية شرعية، يصبح ذلك كافيا لحل كل المشكلات، بما في ذلك “الجعرة” عند الأطفال.
قال الأستاذ الجامعي كمال الزمراوي إن أفراد المجتمع، بمختلف مرجعياتهم الاجتماعية والفكرية، معرضون للتأثير بالفكر الخرافي الذي تحول إلى عدوى ذهنية منتشرة، تتقوى خاصة في ظل معاناة الأفراد من مجموعة من المشاكل السلوكية والنفسية، فضلا عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية.
وفي هذا السياق، يتم ربط هذه المشكلات بوجود سحر وجن وشيطان، مما يدفع البعض إلى اللجوء إلى شخص يتمتع -في اعتقادهم- “بمشروعية دينية” قادرة على قهر هذه القوى الغيبية والتخلص من المعاناة. وفي هذا الإطار، نجد أن الراقي أو “الفقيه”، تحت ضغط “سيكولوجيا الإقناع” أو “مقولة التسليم” وسلطة الإيحاء، يكتسب قوة إقناعية خارقة، يعززها بتقمص شخصية ذات مرجعية دينية في الخطاب والشكل.
أورد أستاذ علم النفس الاجتماعي ذاته أنه نظرا لغياب الثقافة السيكولوجية في مجتمعنا ولعدم الثقة في كفاءة العلاج النفسي، من الطبيعي أن يعزف الناس عن اللجوء إلى العيادات النفسية ويبحثون بدلا من ذلك عن العلاج عند “الرقاة” و”الفقها” الذين يستخدمون الدين كغطاء لاستقطاب من يعانون من مشاكل مثل العصبية الزائدة عند الأطفال.
وشدد على أن هذا الاتجاه يزداد في ظل الفراغ القانوني وارتفاع نسبة الأمية في المجتمع، بالإضافة إلى غياب حملات التوعية التي تكشف زيف هذه الوسائل الخرافية، من جملة عوامل أخرى، تساهم في اتساع الفجوة بين العلاج النفسي القائم على مفاهيم علمية وأدوات طبية من جهة، والرقية الشرعية التي تعتمد على مفاهيم عامية متجذرة في اللاوعي الاجتماعي المشترك من جهة أخرى.
قال الدكتور محسن اليرماني، باحث في الفكر والعقيدة ومقارنة الأديان، إن التماس اللجوء إلى الفقهاء والرقاة لا ينصح به؛ بل يمكن للوالدين أو أحد الأقارب مثل الأجداد أو الأعماق والخالات أن يقرؤوا بعض آيات القرآن الكريم والأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الرقية.
وبخصوص الحجابات أو التمائم، قال اليرماني إن العلماء اختلفوا في حكمها إذا كانت مكتوبا عليها آيات قرآنية؛ فهناك من يرى جوازها ومن يرى تحريمها. أما إذا كانت مكتوبا عليها أشياء أخرى مثل أسماء الجن أو جداول أو غيرها، فإن ذلك يعد من الشعوذة التي لا تجوز شرعا.
وأورد الباحث اليرماني، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أنه من المهم أن يتقبل الوالدان بكاء طفليهما؛ فهذا من باب الصبر على ما أمرنا به شرعًا من تحمل مسؤولية رعاية الأطفال وتوفير حقوقهم، ولا ينبغي للوالدين اللجوء إلى الطبيب إلا إذا تفاقم الوضع بشكل غير طبيعي أو لافت للنظر.
وشدد المتحدث عينه على أن ظاهرة بكاء الأطفال وصراخهم هي فطرية وطبيعية، وقد تتفاوت حدة البكاء من طفل لآخر نتيجة تداخل العديد من الأسباب؛ مثل العوامل الوراثية، الاستعدادات النفسية والسلوكية، بالإضافة إلى عوامل بيئية واجتماعية أخرى.