كثيرة هي البحوث والدراسات التاريخية والأكاديمية التي تناولت تاريخ العلاقات المغربية/ الأمريكية، والتي حصد فيها السبق المغربي باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن التاج البريطاني سنة 1777 حصة الأسد في كل تلك النقاشات الفكرية والاكاديمية.
لكن ينتابنا إحساس بأنه من الممكن تجويد وتقوية قراءة تلك الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ، وأنه من الممكن ابتكار قراءات جديدة حول رمزياتها وامتدادات تداعياتها في الزمن إلى غاية اليوم.
وهذا راجع إلى الرغبة الجامحة في الدفع بعجلة التأمل والتفكير في قوة القرار وحمولاته، وفي قراءة شخصية صاحب القرار ذات زمن فاصل في تاريخ المملكة المغربية الشريفة وبميلاد نظام عالمي جديد آنذاك لأن القرار ذاته مهد الطريق لعلاقات مغربية/ أمريكية تطورت عبر التاريخ، ولا يمكن فهم عمقها إلا بالرجوع إلى تفاصيل سياقات تمتد لقرنين من الزمن.
كل هذا يدعونا إلى تكثيف حلقات التفكير الجماعي وتخصيص مساحات جديدة لدراسة ماهيات جرأة الموقف والاعتراف المغربي في ظل سياقات تقاطع وتقاطب كانت رهينة المصالح الاقتصادية والتجارية والسياسية للدول الكبرى.
ومن هنا يمكننا وضع سؤال في غاية البساطة لكن بكثير من المنطق، مفاده أن اعتراف الإمبراطورية المغربية باستقلال دولة جديدة وراء المحيط الأطلسي غارقة في تداعيات حرب الاستقلال مع بريطانيا وصلت سنتها الثامنة وتتعرض سفنها لعمليات القرصنة في البحر المتوسط بعد رفع الحماية والأعلام البريطانية عن سفن أمريكا، مما عرّض التجارة للإفلاس والتجار للأسر .
وفي الوقت ذاته ترددت دول قوية كالمملكة الفرنسية وإسبانيا وهولندا في حسم الاعتراف رغم اتصالات المبعوثين الامريكيين بقصر فيرساي.
فهل كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله مجرد مغامر مثلا، أم كان ديبلوماسيا متبصرا يُقدر قدْر اللحظات والمواقف التاريخية؟ لأننا بميزان المنطق ذاته نصل إلى أن اعتراف السلطان سيدي محمد بن عبد الله باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة يجعل فرضية غضب بريطانيا العظمى بأسطولها القوي وترسانتها العسكرية المتطورة قائمة، ومعها باقي القوى القوية آنذاك.
لكن برجوعنا إلى العديد من مراسلات القناصلة والمذكرات والأوراق الخاصة كأوراق John Adams وThomas Jefferson وأيضا القنصل Thomas Barclayسنجدها جميعها تصف السلطان/ الإمبراطور سيدي محمد بن عبد الله بكل صفات الحنكة والتجربة الديبلوماسية والباحث عن العدالة والمحب للحرية وضد العبودية والأسر.. ومنها إرساله السفير محمد بن عثمان المكناسي لفك أسر حوالي 613 أسيرا مسلما بجزيرة مالطا، وكذا تكليفه السفير والوزير سيدي الحاج الطاهر بن عبد الحق فنيش باصطحاب 17 بحارا فرنسيا كانوا في الأسر أثناء رحلته إلى باريس عبر ميناء مارسيليا.
ولا شك أن اعتراف السلطان/ الإمبراطور المغربي باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية أدخله التاريخ كأول دولة في العالم. إضافة إلى كل ما حمل معه من الدلالات السياسية، في الوقت الذي كان المبعوثون الأمريكيون بباريس متأبطين كتاب Emer Vattel حول القانون الدولي ويعملون بكل جهد من أجل انتزاع اعتراف ملك فرنسا.
ولم يقف السلطان سيدي محمد بن عبد الله عند حدود الاعتراف، بل فتح موانئه، خاصة موكادور، أمام السفن التجارية الأمريكية، مع ضمان الحماية من قراصنة المتوسط.
أكثر من هذا فإن الحرب الأمريكية/ الليبية (1801/ 1805) عثّرتْ ذلك التقارب والتعاون، وتكبدت تلك العلاقة خسارة كبيرة، في الوقت الذي عزز السلطان المغربي موقعه كفاعل قوي في الحرب والسلم بتوقيعه مع 11 دولة معاهدات واتفاقيات تجارية وصداقة، وهو ما سيبرر وصول المبعوث الأمريكي Thomas Barclay إلى مراكش في يونيو من سنة 1786 من أجل توقيع معاهدة الصداقة والسلام بعد مرور قرابة عقد من الزمن على تاريخ الاعتراف المغربي باستقلال أمريكا سنة 1777. وقد تم التوقيع بعد مباحثات مع ممثل السلطان سيدي الطاهر بن عبد الحق فنيش حول نقاط مسودة الاتفاق، ثم رفعها إلى السلطان محمد الثالث، وهي الاتفاقية السارية لحد الآن، وقد تعززت في عهد المولى سليمان بافتتاح مفوضية أمريكية بطنجة سنة 1821 كأول مقر ديبلوماسي خارج الحدود الأمريكية.
والحديث عن عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله لا يكتمل دون الحديث عن بنائه مدينة الصويرة أو موكادور ودور مينائها في التجارة الدولية وترسيخ العلاقات مع أمستردام ولندن وفينيسيا ومدريد وباريس..
فاحتفاظ السلطان بمراكش عاصمة لملكه وبناؤه مدينة اطلسية جديدة يحمل رسائل انفتاح مغربي على الشمال والشمال الاطلسي، وهو ما فسره أكثر من مؤرخ وباحث أولا برغبة السلطان في ضمان مداخيل جديدة وقارة لبيت المال، وثانيا الدخول في تحالفات سياسية وعسكرية استراتيجية مع الدول القوية لصد كل الاطماع الخارجية، خاصة أن الموقع الجيوستراتيجي للمغرب كبوابة للبحر المتوسط وللقارة الإفريقية جعله في مرمى أطماع الدول الاستعمارية.
وبلغة العصر الحديث، فإن السلطان محمد الثالث كان واعيا بأهمية البنية التحتية، خاصة في مدن السواحل الاطلسية، من أجل تقوية الاقتصاد ودعم القدرات العسكرية والدفاعية. كما كان واعيا بأهمية الموارد البشرية والكفاءات. لذلك عُرف باستقطابه أسرا يهودية مغربية معروفة في عالم المال والأعمال والترجمة من أغلب المناطق المغربية من أجل مباشرة الأعمال التجارية والجمركية والمبادلات، ومكنها من امتيازات ومنافع. وبهذا يكون السلطان سيدي محمد بن عبد الله قد جعل من مدينة الصويرة قطبا ماليا وتجاريا في مغرب القرن 18.
مذكرات أو أوراق جون أدامس تحدثت بكثير من الاحترام عن السلطان سيدي محمد بن عبد الله وعن حاجة الدولة الجديدة أمريكا لعقد شراكات وصداقة مع المغرب من أجل حماية تجارتها ومصالحها في الفضاء المتوسطي والأطلسي.
وهكذا سارت العلاقات المغربية/ الأمريكية وتقوت في كل اللحظات القوية في عهد السلطان مولاي سليمان وعهد السلطان محمد الخامس. إذ كانت الولايات المتحدة الأمريكية من أولى الدول التي اعترفت باستقلال المغرب، والزيارة التاريخية للراحل الحكيم الحسن الثاني، طيب الله ثراه، في أوج الحرب الباردة، وصولا إلى عهد الملك محمد السادس، و ما عرفته هذه العلاقة من ترسيخ وتحديث عبر زيارات جلالته للولايات المتحدة الأمريكية وعقد اتفاقيات وشراكات استراتيجية تنفتح على الفضاء الأطلسي/ الأمريكي.
لذلك فاعتراف الإدارة الأمريكية في دجنبر 2020 بسيادة المغرب على كامل صحرائه مثلا يدخل في هذا المسار التاريخي الذي يمتد لقرنين من الزمن، والذي ينطلق باعتراف الإمبراطور سيدي محمد بن عبد الله أو محمد الثالث باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777.
ولأن الاعتراف المغربي باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية غير مجرى التاريخ فعلا، فإنه يدعونا إلى المزيد من الاهتمام وإعادة قراءة رسائل القناصلة الغربيين والمبعوثين الأمريكيين لأن التاريخ عادة ما يعيد نفسه مع تغيير في بعض التفاصيل.