في طفولتي، كنتُ كلما حملتني الصدفة إلى بيت قريب عائد من هولندا في عطلته السنوية، أجدني أغرق في تقليب صفحات المجلات التي كان يحملها معه. كانت تلك الصفحات نافذتي الأولى إلى عالم لم أكن أدرك حدوده بعد، عالم تتجاور فيه الصور الزاهية مع العوالم الغامضة، حين التقيتُ لأول مرة بلوحات Van Gogh فان غوغ، بألوانها التي تشبه أحلام الطفولة وخطوطها التي بدت لي آنذاك أقرب إلى رسومات الأطفال.
كنتُ أتأملها بشغف طفولي، مقتنعًا بأنني قادر على أن أرسم أفضل منها، غير مدرك أن خلف تلك الألوان الصاخبة كان يختبئ عالمٌ من العذاب والجنون. لم أكن أدرك أن تلك العفوية الظاهرة تخفي وراءها عالماً من التوتر والانفعال، وأن كل لون ينبض بحياة داخلية لا تراها العين بقدر ما يستشعرها القلب. من بين تلك الصور التي بقيت عالقة في ذاكرتي، كانت هناك لوحة الجذور Les racines، التي لم أفهم دلالاتها، لكنها بدت لي شبكة متداخلة من خطوط متعرجة وتائهة تبحث عن مَخرج. لم أعرف إلاّ فيما بعد أنها كانت آخر ما رَسَمَهُ فان غوغ.
لوحة / شهادة تختزنُ مأساته الوجودية، وترسم ملامح وداعه الصّامت للحياة.
ظلت لوحاتُ فان غوغ تأسرني بغموضها وبساطتها لانفتاحها على عَالم مشحُون بالعَاطفة في تأرجحه بين وهج الحياة ولهيب المعاناة. حين أنظر إلى ألْوانها المتوهّجة، أشعر أنني لا أنظر إلى سطح قماش، بل أغوص في دوّامة روح مضطربة. يشتدّ اللون في لوحاته حتى يكاد ينفجر، تمتد الخطوط كأنها تريد الإفلات من أسْر اللوحة، وكأن العالم في نظره لم يكن شيئًا جامدًا، بل كيانًا حيًا، يتألم، ويرقص على إيقاع حياة لم تمنحه الطمأنينة.
في كتاب Henri Perruchot La Vie de Van Gogh : “حياة فان غوغ”، يرسم هنري بيروشو صورة صادقة لرسام معذّب، بعيدًا عن الهالة الرومانسية التي أحاطت باسمه، معتمدا في ذلك على مراسلاته مع شقيقه Théo ثيو؛ يعيد الكاتب تشكيل مسار فنان خاض صراعًا مستمرًا ضد الفقر وسوء الفهم وشياطينه الداخلية. لا يقتصر بيرو شو على إبراز معاناة فان غوغ، إنما يكشف أيضًا عن شغفه اللامحدود بالجمال، وعشقه للألوان، وسعيه اليائس إلى التقاط جوهر العالم، محللًا بعناية العلاقة المعقدة بين حالته العقلية وإبداعه الفني. يستكشف بيرو شو هذه الازدواجية التي تميز فان غوغ: فنان مرهف الإحساس إلى حدٍّ مفرط، ممزق بين نشوة الإبداع وانهياراته النفسية.
تتفق جميع الببليوغرافيات التي أرّخت لحياة فان غوغ على أنه في السابع والعشرين من يوليو عام 1890، غادر كعادته إلى الحقول المحيطة بقرية أوڤير-سور-واز. وفي ذلك اليوم، أصيب برصاصة في صدره، ولم يفارق الحياة على الفور، بل عاد إلى الفندق الذي كان يقيم فيه، ليقضي نحو ثلاثين ساعة يصارع الموت قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في الساعات الأولى من صباح التاسع والعشرين من يوليو، بحضور شقيقه Théo ثيو. غير أن ملابسات إصابته ووفاته ظلت غامضة حتى اليوم، إذ تعددت الروايات حول ما حدث، وتنافست النظريات في تفسير هذا المشهد الأخير من حياته.
في السنوات الأخيرة، ظهرت العديد من الفرضيات التي تشكك في مسألة انتحاره، معتبرةً أنه ربما كان ضحية حادث أو حتى جريمة غير متعمدة. تستند هذه الفرضية إلى عدة احتمالات؛ أولها أن موضع الإصابة في الصدر لا يتناسب مع حالات الانتحار الشائعة، حيث يختار المنتحرون عادةً إطلاق النار على الرأس. كما أن السلاح لم يُعثر عليه رغم تفتيش المنطقة لاحقًا. أما سلوكه بعد الإصابة، فكان مثيرًا للتساؤل، إذ تمكن من المشي والحديث، ولم يُبدِ أي رغبة في تفسير ما حدث له بصراحة، وكأنه اختار التزام الصمت بشأن تفاصيل ما وقع له. وفي عام 1956، أدلى طبيب كان يعمل في أوڤير آنذاك بشهادة مفادها أن الإصابة لم تكن
تبدو محاولة انتحار، مما يعزز احتمال أن فان غوغ لم يكن هو من أطلق الرصاصة. وإذا صحت هذه الفرضية، يكون قد قرر عدم اتهام أحد، ربما بدافع اللامبالاة تجاه الحياة أو بدافع حماية الجُناة.
وسط هذا الغموض، تزداد أهمية لوحة “الجذور” والتي كانت آخر ما رسمه فان غوغ، إذ تبدو وكأنها انعكاس لحالته النفسية في أيامه الأخيرة. تتشابك الجذوع والفروع في هذه اللوحة بطريقة فوضوية، كأنها ترمز إلى فقدان السيطرة والتداخل بين الحياة والموت، أشبه بمتاهة عقلية لم يجد الفنان منها مخرجًا. وللمرة الأولى في مجمل أعماله تغيب السماء تمامًا، وكأن الأفق انسدَّ أمامه، بينما تحتفظ الألوان ببريقها، لكنها لا تبعث على الطمأنينة، بل توحي بصراع بين الحياة وزوالها الوشيك. سواء كان رحيله انتحارًا أم حادثًا غامضًا، فإن لوحة “الجذور” تظل آخر كلمة بصرية نطق بها فان غوغ؛ لوحة تنبض بالأسرار، وتترك المجال مفتوحًا أمام احتمالات لا نهاية لها.
بعيدًا عن المشاهد الطبيعية ذات الآفاق الممتدة، والبورتريهات الذاتية المشحونة بالألم، جاءت لوحة “الجذور” في صورة تكوين فوضوي متشابك، حيث تندمج الخطوط والألوان في شبكة من الجذوع المقطوعة والملتوية والتي تملأ الإطار بالكامل، بلا نقطة ارتكاز واضحة أو منظور كلاسيكي. يتحوّل الإحساس بالمكان والزمان، في هذه اللوحة، إلى نوع من التوتر المطلق، وكأن الفنان في لحظاته الأخيرة كان يحاول تفكيك العالم إلى عناصره الأولية، أو ربما كان يرسم ذاته المتفككة التي فقدت انتماءها إلى كل شيء، حتى الأرض التي تقف عليها.
تكشفُ اللّوحة عن تفكّك المشهد إلى عناصر متراكبة غير مستقرة، تختلط الجذوع والأغصان والجذور في كُتل متداخلة، بلا أفق واضح أو مركز ثقل يمكن للعَيْن أن تستقرّ عليه. في أعماله السابقة، حتى في أكثر لوحاته اضطرابًا، كان فان غوغ يترك أثرًا من النظام الداخلي، حيث تحتفظ الطبيعة ببنيتها الأصلية، أما في لوحة “الجذور” فالأمر مختلف تمامًا: لا يوجد ترتيب، ولا بناء، بل مجرد تداخلات بصرية أشبه بمشهد طبيعي يعاني من تحلُّله الداخلي.
تبدو اللوحة أشبه بحركة دورانية مستمرة، تتكرر الأشكال في دوّامة من الجذور. لا يشبهُ هذا التجريد أعماله الأخرى، بقدر ما يقترب بشكل مُثير للدهشة من لغة الفن الحديث، وكأنه كان يستبق عصره بسنوات آتية، تتجاوز كل أشكال التّصوير الواقعي نحو حالة ذهنية مُثيرة.
الألوان في هذه اللوحة أكثر إشراقًا مما قد يتوقعه المرء من عمل أخير لفنان في حالة نفسية هشّة. الأزرق العميق، الأخضر الفاقع، الأصفر المشع، واللمسات القرمزية الحادة، كلها عناصر تمنح المشهد إحساسًا بحياة متوهجة تحملُ في العمق مفارقة مأساوية. لذلك، يُؤجّجُ التناقض الحادّ بين صخب الخطوط وحيوية اللّون توترًا داخليًا، فتبدو اللوحة وكأنها تحتضر في وهج مضيء.
في العديد من أعماله السابقة، استخدم فان غوغ اللون أداة للتعبير عن الانفعال النفسي، لكن في هذه اللوحة، تبدو الألوان وكأنها انفصال نهائي عن العالم المادي، حين تتحول إلى طاقة بلا ملامح واضحة. ربما كان اللون هنا صدى أخيرًا لنظرة ترتجفُ بين الوُضوح والتّلاشي، بحيث لا تلتقط العين الأشياء بوصفها كيانات مُستقلة، بل تنسابُ الرؤية في ضربات ضوئية متلاحقة، تتداخل فيها ألوان تنبضُ بالحياة وتحتضر في الآن ذاته، فيَتحوّلُ المشهد إلى تجربة حسية خالصة، تتجاوز حُدود الشكل إلى انفعالات الضوء وظلاله.
ما الدلالات الرمزية التي قد تحملها هذه الجذور؟ وهل كان فان غوغ يكتفي بتصوير مشهد طبيعي عابر، أم أنه كان يُجسّد من خلاله تجربة ذاتية مُوغلة في الانفعال؟
تعد الجذور في المتخيّل الثقافي رمزًا معقدًا يشير إلى الاستقرار والانتماء، لكنها في الوقت ذاته قد تعكس العجز والتجذر القسري في واقع غير مُحتمل. في حالة فان غوغ، الذي عاش حياة مليئة بالترحال، والبحث الدائم عن موطئ قدم، يمكن قراءة اللوحة بوصفها صورة أخيرة لمأزقه الوجودي: فالجذور هنا تبدو متشابكة بشكل مفرط، وكأنها فقدت قدرتها على الامتداد بحرية، مما يعكس إحساسًا داخليًا بالخَنْق والتّيه. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب السّماء والأفق يُوحي بعالم مغلق، فلا يوجد مخرج ولا مساحة للحركة. ليس غريبًا أن تكون هذه اللوحة آخر ما وقع عليه بصر فان غوغ، إذ تعكس إحساسًا وجوديًا قاسيًا بانسداد الأفق وانعدام المستقبل، وكأن العالم قد انحصر في متاهة من التعقيدات المستعصية على الحَلّ.
على الرغم من أن فان غوغ يُصنّف ضمن المدرسة التعبيرية، إلا أن لوحتهُ “الجذور” تتجاوز هذه الحدود نحو آفاق تجريدية لم يكن قد بلغها من قبل. في هذه اللوحة، لم يعد الموضوع مهمًا بقدر ما أصبح الإحساس بالحركة والتفكك هو المحور الأساسي. تبدو اللوحة أشبه بتجربة حسية خالصة؛ لم يعد المشهد مجرد انعكاس للعالم الخارجي، بل تحوّل إلى انفعال داخلي خالص. من وجهة نظر الفلسفة الوجودية، قد تُقرأ اللوحة بوصفها صورة مكثفة للحظة القلق المطلق، حين يفقد العالم معناه المتماسك، ويصبح الوجود نفسه مجرد تشابك فوضوي بلا منطق، لتتحوّلَ “الجذور” إلى استعارة عن الذات التي فقدت كلّ يقين.
يمكن اعتبار لوحة “الجذور” تفكيكًا نهائيًا لكل ما ألفناه في فن فان غوغ، إذ تبدو كأنها محاولة أخيرة لاختزال الحياة في ضربات فرشاة متوترة، تتماهى من خلالها الذات مع العالم في دوامة من الألوان والحركة المتعانقة. وإذا كانت هذه اللوحة قد رسمها فان غوغ بالفعل في اليوم الأخير من حياته، فإنها تصبح شهادة بصرية نادرة على احتضار فنان عبقري لم يختتم مسيرته بمشهد غروب هادئ أو بورتريه تأمّلي، وإنما بمشهد تملؤه الفوضى، حين تتشابك الجذور في حركة مضطربة كأنها امتدادٌ لقلق داخلي لا يهدأ . كأن فان غوغ، في لحظاته الأخيرة، لم يكن يرسم الطبيعة، وإنما يُترجم اضطراب روحه إلى لون وحركة، تاركًا خلفه تحفة فنية شاهدة على احتضار فنان لم يعرف السّكون حتى وهو على حافة الوداع؛ كأني به يقول: “هذا هو العالم الذي أراه، وهذا هو الاضطراب الذي يسكُنني، وليس لي مكانٌ سوى بين هذه الجذور المتشابكة.”
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.