عندما تغيب الشمس خلف جبال الأطلس الشامخة في مدينة تنغير، تبدأ دينا صابر نوبتها الليلية في مهمة لا تعرف النوم، تجلس خلف مقود سيارة الإسعاف البيضاء، تتفحص أجهزتها الطبية المتطورة بعيني خبيرة، وتستعد لسباق آخر مع الزمن.
في الثلاثين من عمرها، تحمل دينا في قلبها شغفا لا يوصف لمهنة تجمع بين القوة والرحمة، فهي خريجة معهد التكوين العالي في تقنيات الكهرباء؛ لكنها لم تكن تتخيل يوما أن مسارها المهني سيقودها إلى عالم الإسعاف الطبي.. القدر رسم لها طريقا مختلفا عندما التحقت بمعهد التكوين في الميدان الصحي، لتتخرج عام 2021 كتقنية متخصصة في النقل والإسعاف الصحي.
على طول الطريق الملتوي بين تنغير والرشيدية، تقود دينا سيارة الإسعاف المتطورة بثقة وحزم، أناملها التي درست يوما تعقيدات الدوائر الكهربائية، باتت اليوم تتحكم في أحدث تجهيزات سيارة SMUR، تجمع بين مهارات السياقة المحترفة وخبرتها التقنية؛ فعندما يتعطل أحد الأجهزة، تستحضر معرفتها الهندسية لإصلاح الأعطاب بسرعة وكفاءة.
ويصف عدد من زملائها والأطباء والممرضين وحتى عموم المواطنين بمدينة تنغير دينا صابر بأنها امرأة بألف رجل، ويؤكدون أن في ليالي الشتاء الباردة، حين تنام المدينة، تظل دينا مستيقظة، جاهزة للانطلاق في أية لحظة، وصوت صفارات الإنذار يشق سكون الليل، وتبدأ رحلة جديدة لإنقاذ حياة أخرى، تسابق عقارب الساعة عبر الطرق، تارة نحو ورزازات، وتارة أخرى باتجاه الرشيدية، حاملة معها آمال عائلات تنتظر وصول أحبائهم إلى المستشفيات المجهزة.
ابنة مدينة وجدة المغربية اختارت أن تخدم في قلب الجنوب الشرقي المغربي، حيث التحديات أكبر والحاجة أشد.
وفي هذا الإطار، تقول دينا بفخر واعتزاز: “كل رحلة إسعاف هي قصة إنسانية فريدة.. أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه كل مريض أنقله، نحن لا ننقل مجرد أجساد، بل نحمل معنا آمال وأحلام عائلات بأكملها”.
في قمرة القيادة، تجتمع المهارات التقنية مع الحس الإنساني، تراقب دينا المؤشرات الحيوية للمرضى عبر الأجهزة المتطورة، وفي الوقت نفسها تختار أفضل المسارات وأكثرها أمانا. خبرتها في مجال الكهرباء تمنحها ميزة إضافية، فهي قادرة على التعامل مع أي عطل تقني قد يطرأ على التجهيزات الطبية المعقدة.
وفي تصريحها لجريدة هسبريس الإلكترونية، قالت دينا صابر إنها تؤمن بأن عملها أكثر من مجرد وظيفة؛ بل إنه رسالة إنسانية نبيلة تتطلب التفاني والشجاعة.
وأضافت الشابة الثلاثينية أنه في كل مرة تنطلق فيها سيارة الإسعاف، تحمل معها قصة جديدة وأملا جديدا وتحديا جديدا، مشيرة إلى أن المرأة المغربية قادرة على كسر كل الحواجز وتحقيق النجاح في أصعب المجالات.
ابتسمت دينا وقالت بنبرة عميقة: “صحيح أن التحديات والإكراهات موجودة في كل القطاعات، وقطاع الصحة ليس استثناء؛ لكني تعلمت أن الشغف والحب الحقيقي للمهنة يمنحانك قوة خارقة لتجاوز كل الصعاب”، مبرزة: “عندما يكون هدفك إنقاذ حياة إنسان، تصبح كل التحديات صغيرة أمام هذه المسؤولية النبيلة”.
وكشفت دينا في تصريح لهسبريس: “ما يسعدني حقا أن المرضى وعائلاتهم لم يعودوا يروني مجرد سائقة سيارة إسعاف؛ بل أصبحت بالنسبة لهم واحدة من العائلة.. يتصلون بي حتى بعد شفائهم للاطمئنان، يشاركونني أفراحهم وأحزانهم، هذه العلاقات الإنسانية الدافئة هي ما يجعلني أحب عملي أكثر كل يوم وأواصل العطاء رغم كل الصعوبات.. في النهاية، الإنسانية هي جوهر مهنتنا، والابتسامة على وجه مريض تعافى هي أجمل مكافأة”.
وبينما تستمر الحياة في دورتها اليومية، تظل دينا صابر ملاكا حارسا على الطرقات، تنقذ الأرواح وتبث الأمل في قلوب المرضى وذويهم، قصتها ليست مجرد سيرة مهنية؛ بل هي ملحمة إنسانية تروي كيف يمكن للشغف والإصرار أن يصنعا الفارق في حياة الآخرين.
قالت دينا بنبرة متفائلة إن “افتتاح المركز الاستشفائي الإقليمي الجديد بتنغير يمثل نقلة نوعية في المنظومة الصحية بمدينة تنغير والإقليم بشكل عام، حيث سينهي هذا الصرح الطبي معاناة المرضى وعائلاتهم في التنقل لمسافات طويلة نحو ورزازات والرشيدية”، مضيفة: “كنت أشهد يوميا حجم المشقة التي يتكبدها المرضى خلال هذه الرحلات الطويلة، خاصة في الحالات الحرجة”.
وأضافت المتحدثة ذاتها بحماس: “المستشفى الجديد مجهز بأحدث المعدات الطبية ويضم كوادر طبية وتمريضية عالية الكفاءة، وما يثلج الصدر هو أن وزارة الصحة والحماية الاجتماعية تعتزم تعيين المزيد من الأطر الطبية والتمريضية لتعزيز الموارد البشرية. هذا سيمكننا من تقديم خدمات صحية متكاملة لساكنة المنطقة، ولن نضطر إلى التنقل إلى المستشفيات الأخرى إلا في الحالات المستعصية التي تتطلب تدخلا في المراكز الجهوية أو الجامعي.. إنه حقا مكسب كبير لساكنة تنغير والمناطق المجاورة”.
الدكتور مصطفى الطيب، المندوب الإقليمي لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية بتنغير، قال إن “دينا صابر نموذج مشرف للمرأة المغربية المكافحة والمهنية في عملها.. منذ التحاقها بالمستشفى الإقليمي، أظهرت تفانيا استثنائيا وحسا عاليا بالمسؤولية”، لافتا إلى أن ما يميزها حقا هو جمعها بين الكفاءة التقنية العالية والحس الإنساني المرهف، شهادتها الجامعية في تقنيات الكهرباء وخبرتها في مجال الإسعاف جعلا منها كفاءة متميزة في المستشفى”.
في تعليقه حول الموضوع، قال مولاي أحمد حاجي، مدير المركز الاستشفائي الإقليمي بتنغير: “نحن فخورون بوجود أطر مثل دينا في منظومتنا الصحية، تعاملها الراقي مع المرضى وعائلاتهم، وقدرتها على العمل تحت الضغط، خاصة في الحالات المستعجلة، يجعلها مثالا يحتذى به، وشغفها بالمهنة وروحها الإيجابية تنعكس إيجابا على أداء الفريق الطبي بأكمله.. إنها تمثل الجيل الجديد من المهنيين الصحيين الذين يجمعون بين الكفاءة المهنية والالتزام الإنساني”.