تميزت سنة 2024، التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، بتمكن المغرب من تحقيق مجموعة من الإنجازات ذات الصبغة الحقوقية، سواء داخليا أو خارجيا في إطار علاقته بالمنظمات الأممية، مما كان في كل مرة يلقى صدى إيجابيا لدى مكونات الشعب المغربي، مدنيين وسياسيين وحقوقيين؛ بالنظر إلى أن غالبية هذه الإنجازات يتم تحقيقها لأول مرة، وبعد جهد جهيد.
أول الإنجازات التي تحسب للمغرب في هذا الصدد هي فوزه برئاسة مجلس حقوق الإنسان بجنيف التابع لمنظمة الأمم المتحدة مع مطلع هذه السنة، حيث استطاع الحصول عبر ممثله الأممي الدائم، عمر زنيبر، على 30 صوتا؛ في حين لم يتعد عدد الأصوات الممنوحة لجنوب إفريقيا 17 صوتا، على الرغم من التجييش الذي قامت به الجزائر.
وسعى المغرب، على مدار سنة كاملة ترأس خلالها ثلاث دورات، إلى إعادة هيكلة مجلس حقوق الإنسان بجنيف داخليا وجعله يمارس مهامه بالشكل الأمثل والمتناسب مع طبيعة السياق الدولي، فضلا عن عمله على تجنب كل ما من شأنه أن يجعل أعماله مسيسة أو غير محايدة، إلى جانب فتح باب المجلس على قضايا مستجدة ذات ارتباطات بحقوق الإنسان؛ وهو الأمر الذي أكد عليه سابقا عمر زنيبر، رئيس المجلس، لهسبريس، إذ شدد وقتها على أن حصيلة تسيير المغرب لهذا الأخير “محترمة وأكثر”.
حسب زين العابدين الوالي، رئيس المنتدى الإفريقي للأبحاث والدراسات في حقوق الإنسان، فإن “تولي المغرب رئاسة “مجلس جنيف” خلال هذه السنة يحمل دلالات استراتيجية وسياسية متعددة، تنطلق من مرحلة التصويت عليه بواقع 30 صوتا مقابل 17 بالنسبة لجنوبإأفريقيا؛ هذا الأمر يعكس اعتراف المجتمع الدولي بالإصلاحات الحقوقية المغربية التي قادتها المملكة خلال العقدين الأخيرين. كما أن هذه الثقة ليست صدفة، بل هي نتاج للتوجه المستمر نحو تعزيز سيادة القانون والعدالة الاجتماعية في إطار الرؤية الإصلاحية لجلالة الملك محمد السادس، الذي جعل من حقوق الإنسان ركيزة أساسية للمشروع التنموي الشامل للمملكة”.
سجل الوالي، الذي يعتبر من الفاعلين المترددين على المجلس الأممي ذاته، أن هذا “الإنجاز يبرز تراجع تأثير بعض القوى التقليدية في إفريقيا لصالح نموذج تنموي جديد يتميز بالمصداقية والفعالية. كما يؤكد توافقا دوليا على رؤيته المتوازنة لحقوق الإنسان، التي تخدم التنمية والاستقرار بعيدا عن الأجندات السياسية”، مع تسجيله كون هذا الأخير “يعزز أيضا مكانة المغرب الإقليمية والدولية”.
وجوابا منه عن أسئلة بخصوص ثمرات القيادة المغربية لهذه المؤسسة الأممية على مدار سنة كاملة، بين رئيس المنتدى الإفريقي للأبحاث والدراسات في حقوق الإنسان أن “المغرب ركز على إحداث تغييرات هيكلية وتنظيمية داخل مجلس حقوق الإنسان بهدف تحسين أدائه، فضلا عن تعزيز عمليات اتخاذ القرار لتصبح أكثر عدالة وشفافية، مع توجيه اهتمام المجلس نحو قضايا معاصرة تمس الإنسانية؛ مثل الحق في بيئة سليمة وتأثير الذكاء الاصطناعي على الخصوصية، إلى جانب مساعدة اللاجئين، بما يعكس رؤية شاملة وواعية بتحديات العصر”.
وخلال حديثه عن الموضوع لفائدة جريدة هسبريس الإلكترونية، انتصر الفاعل الحقوقي ذاته لفكرة مفادها أن “المغرب التزم بمنع تسييس أشغال مجلس حقوق الإنسان خلال فترة رئاسته، بما يعكس موقفا مبدئيا وعمليا يخدم مصداقية المجلس في سياق عالمي تشهد فيه المؤسسات الأممية أحيانا محاولات استغلال لتحقيق مكاسب سياسية؛ في حين عمل كذلك على حماية استقلالية المجلس وضمان بقاء أعماله مُكرسة لتحقيق العدالة والحيادية”.
كما ذكر أن “هذا النهج عزز الثقة في المجلس كهيئة محايدة تُركز على القضايا الحقوقية بعيدا عن الأجندات الجيوسياسية؛ فالمغرب بذلك قدم نموذجا عالميا في إرساء معايير موضوعية وشفافة، ووجه رسالة واضحة إلى دول مثل الجزائر، التي تحاول تسييس الملفات الحقوقية لتشويه صورة خصومها”، مؤكدا أن “التزام المغرب بهذا المبدأ يُظهر وعيا استراتيجيا بأهمية استدامة الثقة في المؤسسات الأممية على المدى الطويل”.
وخلص زين العابدين الوالي إلى أن “رئاسة المغرب لمجلس حقوق الإنسان خلال سنة 2024 تعد حدثا تاريخيا يعكس عمق الإصلاحات الحقوقية التي قادها الملك محمد السادس، من خلال التركيز على الحيادية، تطوير آليات المجلس، وتعزيز الشفافية.. فالمملكةُ إذنْ نجحت في تقديم نموذج يُحتذى به في العمل الحقوقي الدولي؛ فهذا الإنجاز لم يكن مجرد منصب شرفي، بل كان فرصة لترسيخ دور المجلس كمنصة أممية للعدالة والإنصاف”.
حدث آخر ذو صبغة حقوقية وسم سنة 2024، ويتعلق الأمر بإقدام الملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى الـ25 لاعتلائه العرش، على العفو عن مدانين من قبل محاكم المملكة بتهم مرتبطة بالحق العام، من بينهم صحافيون ونشطاء، إلى جانب 16 مدانا بمقتضيات قانون مكافحة الإرهاب، بعدما تمت إعادة تأهيلهم من خلال برنامج “مصالحة” وقبولهم بإجراء مراجعات فكرية تنبذ التطرف واللجوء إلى العنف.
واستفاد وقتها من العفو الملكي كل من توفيق بوعشرين وعمر الراضي وسليمان الريسوني، إضافة إلى النشطاء رضا الطاوجني ويوسف الحيرش وسعيدة العلمي ومحمد قنزوز (مول القرطاسة)، بعد قضائهم مددا متباينة من العقوبات السالبة للحرية على ذمة أحكام في ملفات قضائية مختلفة.
وحظيت هذه المبادرة الملكية، التي تمتح من نص الفصل 58 من دستور سنة 2011 والذي ينص على أن “الملك يمارس حق العفو”، بترحيب كبير واسع، سواء داخل الحركة الحقوقية أو في صفوف المغاربة ككل. كما كانت كذلك محط اهتمام كبير من قبل الإعلام العالمي.
وفتح العفو الملكي عن هؤلاء الأشخاص شهية الجسم الحقوقي بالمملكة الذي كانت تطلعاته واسعة، إذ عبر مجموعة من الطرق عن آماله بأن تشمل مبادرة أو مبادرات شبيهة في المستقبل القريب المعتقلين في إطار الاحتجاجات الاجتماعية؛ على رأسهم المعتقلون في ملف “حراك الريف”، من أجل طي هذه الصفحة التي كانت مثار نقاش حقوقي خلال السنوات الست الأخيرة.
إذا كان مدانون في ملفات ذات علاقة بقضايا الحق العام استفادوا من العفو الملكي بمناسبة عيد العرش فإن المبادرة ذاتها ستشمل كذلك حوالي 4831 من الأشخاص المدانين أو المتابعين أو المبحوث عنهم في قضايا متعلقة بزراعة القنب الهندي المتوفرين على الشروط المتطلبة للاستفادة من العفو، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب.
ولم تكن هذه الخطوة التي أقدمت عليها أعلى سلطة بالبلاد لتمر بدون أن تحصد تثمين الوسط المجتمعي والحقوقي والسياسي كذلك، خصوصا على مستوى الأقاليم الشمالية للمملكة التي تعرف انتشار زراعة القنب الهندي المعروف شعبيا بـ”الكيف”. واعتبرت هذه الخطوة من قبل كثيرين “نقطة بداية لحياة جديدة في مناطق زراعة القنب الهندي، وستمكن المزارعين الصغار من الانخراط في الورش الذي فتحته الدولة خلال السنوات الأخيرة والمتعلق بتقنين زراعة القنب الهندي وتوجيهه للاستعمالات الطبية”.
علاقة دائما بالشق الحقوقي تميزت سنة 2024 بتحقيق المغرب لتقدم مهم في حرية الصحافة، إذ قفز 15 مرتبة ضمن التصنيف السنوي الذي تعده منظمة “مراسلون بلا حدود” محققا الرتبة الـ129 عالميا، مقابل الرتبة الـ144 عالميا في سنة 2023، وراء موريتانيا صاحبة المرتبة الـ33 عالميا وتونس صاحبة المرتبة الـ118 عالميا.
ووفقا للتقرير ذاته حل المغرب في الرتبة الـ123 عالميا فيما يتعلق بمؤشر الأمن والسلامة الذي يقيس القدرة على تلقي المعلومات وجمعها ونشرها دون مواجهة خطر التعرض لأضرار ذات طبيعة مهنية متقدما بـ16 مركزا مقارنة مع السنة الماضية، فيما حلت ليبيا ومصر في الرتبتين 133 و166 على التوالي.
وجاء تقدمُ المغرب 15 مرتبة جديدة في مؤشر حرية الصحافة العالمي بالموازاة مع تراجع الجزائر بثلاث مراتب، محتلة المرتبة الـ139 عالميا، في حين تراجعت مصر هي الأخرى بواقع 4 مراتب، مكتفية بالرتبة الـ170 عالميا؛ بما جعل المغرب يحتل الرتبة الثالثة على مستوى شمال إفريقيا وراء موريتانيا وتونس.
في وقت كانت سنة 2024 تلفظ أنفاسها، وكدعم رسمي لمطلب كان مطمحا لكثير من الحقوقيين والمدافعين عن الحق الأسمى للحياة، أبى المغرب إلا أن يصوت، ولأول مرة، بالإيجاب على قرار الإيقاف العالمي لتنفيذ عقوبة الإعدام أمام اللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد سنوات من التصويت بالامتناع على القرار ذاته؛ الأمر الذي اعتبرته تشكيلات حقوقية على أنها “أول خطوة في سبيل إلغاء نهائي لعقوبة الإعدام التي لا تنفذ بالمملكة منذ 31 سنة”.
وحسب محمد العوني، عضو الائتلاف المغربي من أجل إلغاء عقوبة الإعدام، فإن “تصويت المغرب صالح القرار الأممي على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي إلى وقف تنفيذ عقوبة الإعدام يعتبر من بين المنجزات الحقوقية الوطنية خلال سنة 2024، إذ يكون بذلك عبر عن انخراطه ضمن توجه عالمي واضح في هذا الصدد، تبنته ما يزيد عن 170 دولة، إما ألغت العقوبة أو توقفت عن تنفيذها”.
متحدثا بلغة النشوة والفخر بما تم تحقيقه قال العوني لهسبريس بأن “عقوبة الإعدام تظل عقابا داميا وانتقاميا منتهكا الحق في الحياة والكرامة الإنسانية ويتعارض مع الحق في الحماية من التعذيب وضروب المعاملة القاسية. كما تعتبر بمثابة إعلانا عن عجز المجتمع عن التعامل مع الخارج عن القانون والمعتدي على الحقوق”. وزاد: “الأسباب التي تؤكد ضرورة توجه المغرب في هذا الاتجاه متعددة، منها أن الدولة تجعل من نفسها قاتلا عند تنفيذها عقوبة من هذا النوع”.
وتابع شارحا: “هذه الخطوة تأتي بعد ترافع حقوقي طويل منذ أن كان المغرب أوقف تنفيذ عقوبة الإعدام في سنة 1993، على أن تكون إذن دافعا للدولة من أجل أن تقر بصراحة بأنها لن تنفذ مثل هذه العقوبات على مستوى التشريعات؛ فمثل هذه الخطوة ستكون ذات وقع إيجابي حتى على القضاة، بما يجعلهم يتفادون الحكم بهذه العقوبة التي تخالف الحق في الحياة”.
مواصلا تعداد إيجابية ما أقدم عليه المغرب في الرمق الأخير من السنة الجارية، قال عضو “شبكة الصحافيين والصحافيات ضد عقوبة الإعدام” إن المغرب “كان من اللازم أن ينخرط في التوجه العالمي الواضح في هذا الإطار. كما كان من الضروري ألا يتخلف عن ركب الدول الأفريقية التي تبنت هذا التوجه هي الأخرى”.
ولم يكن المتحدث ذاته لينفي دور الحركة الحقوقية بالمغرب في هذا المنجز، إذ أوضح أن “هذه الأخيرة اشتغلت على هذا الموضوع وترافعت بشأنه لمدة طويلة، حيث تم تأسيس عدد من الشبكات بعدد من المجالات، على أساس تأسيس أخرى بمجالات حيوية”، مؤكدا في الأخير أن “عملية التصويت تطرح ضرورة تكثيف الجهود للمرور نحو التنصيص القانوني على إلغاء عقوبة الإعدام بالبلاد”.