كما كان متوقعا حسم الرئيس المنتهية ولايته في تونس “السباق الرئاسي” نحو قصر قرطاج منذ الدور الأول، إثر حصوله على أكثر من 90 في المائة من أصوات الناخبين في الرئاسيات التي أجريت أمس، متفوقا على منافسيه زهير مغزاوي، رئيس حزب “الشعب”، والعياشي زمال، رجل الأعمال المسجون على خلفية تهم تتعلق بمخالفات انتخابية، بفارق كبير، وفق النتائج التي أعلنت عنها “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات”.
وكانت هذه الانتخابات مثار الكثير من الجدل والتشكيك في نزاهتها من طرف مجموعة من القوى المعارضة في البلاد التي اتهمت سعيد، أستاذ القانون الدستوري، بمحاصرة وإبعاد المنافسين الأقوياء وترسيخ الديكتاتورية في بلاد “ثورة الياسمين” التي ضلت طريقها وسط متاهات التجاذبات والصراعات السياسية الداخلية.
ويؤكد دبلوماسيون سابقون وسياسيون تحدثوا لهسبريس أن ولاية قيس سعيد الثانية تنطوي على الكثير من الأولويات والتحديات، منها ما هو مرتبط بالوضع الاقتصادي الهش في البلاد، ومنها ما هو خارجي يتعلق أساسا باستعادة صورة تونس الخارجية وتطبيع العلاقات مع دول الجوار، على رأسها المغرب الذي تشهد علاقات قصر قرطاج معه برودا دبلوماسيا منذ استقبال زعيم البوليساريو في تونس خلال قمة “تيكاد” في العام 2022، وما استتبع ذلك من خطوات على غرار سحب البلدين سفيريهما منذ ذلك الحين، مشددين على أهمية أن تبادر تونس إلى إصلاح علاقاتها مع المغرب وتفادي الاصطفافات الإقليمية المرتبطة بملف الصحراء.
في هذا الصدد قال أحمد أونيس، وزير الخارجية التونسي الأسبق، إن “الانتخابات الأخيرة لا تحمل أي مفاجآت، إذ لم تكن الحملات الانتخابية درامية كما جرت عليه العادة بالنسبة للانتخابات الديمقراطية الفاصلة التي عشناها بعد الثورة الديمقراطية”، مشددا على أن “الأولويات في المرحلة المقبلة هي داخلية بالدرجة الأولى، ومرتبطة بالأزمة الاقتصادية التي نعيشها، وأيضا أزمة الهجرة التي تطرح تحديات كبيرة، ثم تحديات أخرى مرتبطة بالسياسة الخارجية والعلاقات مع دول الجوار”.
في السياق نفسه أشار الدبلوماسي التونسي الأسبق، ضمن تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى “استمرار الفتور في العلاقات مع المغرب، الذي ولحسن الحظ لم يصل إلى مستوى قطع العلاقات”، مؤكدا على “ضرورة عودة سفيري البلدين إلى منصبيهما حتى تستعيد السياسة الخارجية التونسية مكانتها الطبيعية، مع الحرص على أن تكون العلاقات مع الدول المغاربية متساوية ومتوازنة”.
وتابع المتحدث ذاته بأن “التجديد الذي تشهده الحكومات التونسية كانت لتبادر معه تونس في شخص وزير الخارجية أو رئيس الحكومة إلى إجراء زيارة إلى الرباط لتفسير أسباب استقبال زعيم البوليساريو، ورفع اللبس والحرج عن الدبلوماسية التونسية وتبديد التخوفات المغربية المشروعة في هذا الصدد”، مؤكدا أن “تونس لا تعترف بالبوليساريو ولا تؤمن سوى بمغرب الدول الخمس، رغم أن بعض الإخوان أساؤوا التصرف بمحاولتهم زرع دويلة سادسة في المنطقة”.
وشدد وزير الخارجية التونسي الأسبق على أن بلاده “يجب أن تبادر بخطوة نحو المملكة المغربية لتضميد هذا الجرح الذي أصاب العلاقات بين البلدين”، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن “القرار حول هذا الأمر ليس بيد وزير الخارجية، بل بيد رئيس الجمهورية قيس سعيد”.
وتفاعلا مع سؤال لهسبريس حول سر تأخر هذه الخطوة المنتظرة من تونس مقابل انخراطها في خطوات اعتبرت استفزازية ضد بعض دول الفضاء المغاربي، على غرار مشاركتها في اجتماعات جزائرية لخلق “مجموعة مغاربية جديدة تضم ثلاث دول فقط”، قال أونيس إن “هذا الأمر يطرح علامة استفهام كبيرة تغلبت على فهمنا وتتجاوز التقاليد الدبلوماسية التونسية”، مردفا: “الاجتماعات المغاربية الثلاثية أصر عليها الرئيس الجزائري، لكني أؤكد أن نوايا تونس واضحة ولمصالح إستراتيجية واضحة لا تقبل إقصاء أي دولة من مغرب الدول الخمس”.
وجوابا عن سؤال آخر حول المعيقات التي تحول دون تأييد تونس مقترح الحكم الذاتي في الصحراء أورد المتحدث ذاته: “هذه الخطوة ربما تنطوي على حسابات أو حرج بالنسبة لصانع القرار التونسي، غير أننا مؤمنون والشعب التونسي كذلك بأن الأراضي الصحراوية هي أراض مغربية”، مضيفا: “المغرب من أقدم دول المنطقة والعالم وحدوده الحقيقية تتجاوز الحدود الحالية التي وضعها الاستعمار. ولنا في هذا الإطار مؤاخذات على الجزائر لأنها لم تنصف بعد استقلالها، لا تونس شرقا ولا المغرب غربا”.
من جهته أورد ناجي جلول، رئيس حزب الائتلاف الوطني التونسي، أن “الانتخابات الرئاسية في تونس شابتها خروقات عديدة أولها إقصاء المنافسين الحقيقيين لقيس سعيد، الذين ليست لهم مشاكل كبيرة مع الإسلاميين أو بعض القوى السياسية”، معتبرا أن “سعيد يجب أن يستوعب الدروس ويقود عملية مصالحة وطنية تبدأ أولا بإفراغ السجون من المعتقلين السياسيين، أما إن واصل على هذا النهج فستدخل البلاد مرحلة صراع واضطرابات سياسية مجهولة المصير”.
وأضاف جلول: “أرجو منه كذلك أن يحيط نفسه بالكفاءات لأن هذا البلد فيه كفاءات اقتصادية وسياسية، فحتى بن علي وإن كان يُزور الانتخابات لكنه على الأقل كان يحيط نفسه بكفاءات كبيرة، لأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس مترد جدا والشعب التونسي محبط جدا، والحال نفسه بالنسبة للشباب التونسي الذي يغامر في قوارب الموت”، داعيا الرئيس ومعه المعارضة إلى التعقل وإيجاد آليات جديدة للحوكمة.
وحول موقف تونس من قضية الصحراء ومستقبل العلاقات مع المغرب في ظل الولاية الثانية لقيس سعيد، التي يجمع مراقبون على أنها محسومة سلفا، أكد السياسي التونسي ذاته في تصريح لهسبريس أن “الموقف التونسي من هذا الملف كان تاريخيا موقفا حياديا، سواء في عهد الرئيس بورقيبة أو بن علي أو الباجي قايد السبسي أو حتى منصف المرزوقي، قبل أن تصطف تونس إلى جانب الإخوة في الجزائر مع احترامي لهم”.
وسجل رئيس حزب الائتلاف الوطني التونسي أن “موقف الحياد يمكن أن تلعب من خلاله تونس دورا كبيرا في إعادة إحياء حلم المغرب الكبير”، مضيفا: “لنا تاريخ مشترك وعلاقات تاريخية قوية مع المغرب، إذ إن الدولة الحفصية، أول دولة وطنية في تونس، بناها الموحدون”.
وشدد المتحدث ذاته على أن “الموقف التونسي الحالي يجب أن يعدل في اتجاه موقف وسطي مثلما كان الحال في عهد الرؤساء السابقين، لأن الاصطفاف إلى جانب أحد الإخوة المغاربيين على حساب الآخر لا يخدم القضية المغاربية ولا السياسة الخارجية التونسية”، مؤكدا أن “إحدى نقاط ضعف الرئاسة الحالية هي المسألة الدبلوماسية، إذ إن الرئيس الحالي هو رجل محترم وأستاذ جامعي لكن ليس له تاريخ سياسي ودبلوماسي، ولا يعرف أن العلاقات المغاربية معقدة جدا”.
وختم جلول: “الدولة التونسية كانت في فترات سابقة، خاصة في عهد الرئيس لحبيب بورقيبة، محور السياسة المغاربية، أما اليوم ففقدنا عمقنا المغاربي ومعه الإفريقي وفشلنا في سياستنا الخارجية بشكل أثر على صورة تونس في المغرب الكبير وفي الخارج، ولم تعد تلك الصورة الناصعة التي دأبنا عليها”.