في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بروكسل- بعد أشهر من النقاشات المتعثرة والانقسامات بين العواصم الأوروبية، أعلنت مسؤولة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس بمؤتمر صحفي في بروكسل أول حزمة عقوبات أوروبية ضد إسرائيل منذ توقيع اتفاقية الشراكة قبل ربع قرن، وهي خطوة اعتُبرت تحولا في الموقف الأوروبي من حرب غزة ، بعدما وجدت بروكسل نفسها تحت ضغط الرأي العام وتنامي الاتهامات بالعجز.
وقالت كالاس "الهدف ليس معاقبة إسرائيل، بل تحسين الوضع الإنساني في غزة، لذلك فإن مقترحاتنا لا تستهدف المجتمع الإسرائيلي ككل، وإنما تضغط على الحكومة لإجبارها على تغيير مسارها".
الحزمة التي عرضتها المفوضية الأوروبية ، أمس الأربعاء، تشمل تعليق بعض الامتيازات التجارية عبر إعادة فرض رسوم جمركية على ما يقارب 5.8 مليار يورو من الصادرات الإسرائيلية (نحو 37% من إجمالي صادرات تل أبيب للاتحاد)، إضافة إلى عقوبات شخصية تطال وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ، ومستوطنين متهمين بأعمال عنف.
وجاء الإعلان الأوروبي بعد يومين فقط من "خطاب إسبرطة" الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب ل لمحكمة الحنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة- ب القدس ، واعترف فيه بأن إسرائيل تعيش "نوعا من العزلة السياسية"، لكنه دعا لتحويل المجتمع الإسرائيلي إلى "مجتمع محارب" مكتف ذاتيا.
في بروكسل، أرادت كالاس أن تُظهر أن أوروبا لم تعد قادرة على الوقوف مكتوفة الأيدي أمام صور الحصار والدمار في غزة. وفي القدس، كان نتنياهو يبعث برسالة تحد تقول: إن الضغوط لن تغيّر المسار.
وحسب الخبير الاقتصادي الفرنسي كميل الساري، فقد "بلغ حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل عام 2024 نحو 42.6 مليار يورو، مما يجعل أوروبا الشريك الأول لتل أبيب التي تتجه نحو 32% من صادراتها نحو الاتحاد، مقابل 28% نحو الولايات المتحدة".
ويقول الساري للجزيرة نت موضحا أهمية الخطوة "الاتحاد الأوروبي هو الوجهة الأولى للصادرات الإسرائيلية قبل أميركا، لأسباب عدة، أهمها القرب الجغرافي واندماج إسرائيل في السوق الأوروبية منذ عقود. وتعليق الامتيازات يعني أن منتجات إسرائيل -سواء زراعية كالحمضيات أو تكنولوجية متقدمة- ستواجه رسوما إضافية تجعلها أقل تنافسية".
ويضيف "الأثر قد لا يكون مدمّرا اقتصاديا في المدى القصير، لكنه يضعف جاذبية السوق الأوروبية للاقتصاد الإسرائيلي، ويبعث رسالة قانونية واضحة: لا امتيازات بلا احترام لحقوق الإنسان".
والأخطر كما يعلم الإسرائيليون -يواصل الساري- أن "الأسواق المالية وصناديق الاستثمار العربية والدولية قد تبدأ بالتحرك والتدقيق بكل استثماراتها التي ترتبط بشكل غير مباشر بالاقتصاد الإسرائيلي، لأن عشرات المليارات تضخ أحيانا دون وعي في شركات إسرائيلية أو مرتبطة بها".
وقبل أيام فقط من إعلان المفوضية، صوّت البرلمان الأوروبي على قرار غير ملزم يدعو الحكومات للنظر في الاعتراف بدولة فلسطين ، ويؤيد تعليقا جزئيا للاتفاقية مع إسرائيل.
ويرى النائب البلجيكي في البرلمان الأوروبي ، مارك بوتينغا، أن ما حدث لم يكن نتيجة إرادة سياسية حرة، بل ثمرة ضغط شعبي واسع. ويقول للجزيرة نت "للمرة الأولى تُجبر المفوضية على إعلان إجراءات ضد إسرائيل تحت ضغط الشارع، تذكّروا أن أورسولا فون دير لاين وعدت سابقا بدعم غير مشروط لتل أبيب، لكنها الآن مضطرة للتراجع".
ومع ذلك، يوجه بوتينغا انتقادا شديدا قائلا "إعلان عقوبات ضد وزير أو مستوطن يفوّت جوهر القضية، والمسؤولية ليست فردية، بل هي منظومة كاملة: حكومة ونظام احتلال يدعم المستوطنين".
وأردف "نحتاج لعقوبات هيكلية، بل وأبعد من ذلك، إلى حظر عسكري كامل. من غير المقبول أن تواصل أوروبا بيع السلاح لإسرائيل أو السماح بمروره عبر أراضيها، في وقت تقول فيه لجنة التحقيق الأممية بوضوح: إن ما يجري إبادة جماعية ".
"لقد سقط القناع"..
النائبة الإيرلندية للجزيرة مباشر: أوروبا فضحت نفسها بدعمها لإسرائيل في هذه الإبادة الجماعية#المسائية pic.twitter.com/v8qlD4rHHW— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) September 17, 2025
لكن تمرير حزمة العقوبات داخل الاتحاد الأوروبي ليس مضمونا، فتعليق الامتيازات التجارية يحتاج لموافقة بالأغلبية المؤهلة في مجلس وزراء الاتحاد، في حين تتطلب العقوبات الفردية إجماعا تاما.
ويوضح أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بروكسل، البروفيسور كورت ديبوف، النقطة السابقة ويقول للجزيرة نت "هذه المرة الأولى التي يقر فيها الاتحاد الأوروبي عقوبات ضد إسرائيل. لكن السؤال: هل يمكن تنفيذها؟ حتى الآن لا توجد أغلبية. ألمانيا تقول إنها تدرس موقفها، لكنني مقتنع أنها لن تغيّره. الدولة المفتاح الآن هي إيطاليا، فإذا لم تغيّر موقفها فلن تدخل الإجراءات حيّز التنفيذ".
ويضيف "ما نراه استجابة متأخرة للضغط الشعبي لكنها واضحة، فالإجراءات لم تكن ضخمة، غير أنها ليست رمزية فقط. ففرض رسوم على صادرات بقيمة 5 مليارات يورو وإلغاء برامج محددة ليس شيئا عابرا، لكنه أيضا لا يُغيّر الحسابات العسكرية والسياسية لإسرائيل".
ورغم الضجة التي أثارتها العقوبات، يتفق المتحدثون الثلاثة على أنّ ما أُعلن لا يكفي لتغيير مسار الحرب، لكن زوايا تحليلهم تختلف: فالبروفيسور ديبوف يرى أن "إسرائيل تقاتل اليوم انطلاقا من اعتبارات أمنية وسياسية عميقة، ولن تتراجع بسبب رسوم إضافية أو إدراج وزيرين على قائمة العقوبات".
ويتفق معه البرلماني بوتينغا مؤكدا أن "ما نحتاجه هو حظر عسكري كامل وعقوبات شاملة على الحكومة الإسرائيلية بأكملها، لا على وزير أو اثنين فقط".
ويذهب الدكتور الساري إلى أن "الضغط المالي والاستثماري قد يكون أكثر فاعلية من أي عقوبات جزئية، لأنه يُوجّه ضربة مباشرة لتنافسية الصادرات ويضعف الجهاز البنكي الداعم للحرب".
وخلال الأشهر الماضية خرجت مظاهرات ضخمة في برلين وباريس ومدريد وبروكسل، تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل ووقف الدعم العسكري.
وفي ألمانيا تحديدا، أظهرت استطلاعات للرأي أن نحو 63 إلى 68% من المواطنين يؤيدون العقوبات الأوروبية ضد إسرائيل، وهو تحول غير مسبوق في بلد ظلّ لعقود متحفظا بسبب إرث المحرقة. حتى بين أنصار الحزب الديمقراطي المسيحي المحافظ، عبّر ثلثا المستطلعين عن دعمهم لإجراءات ضد حكومة نتنياهو.
ويُعلِّق الخبير الساري قائلا "كان من المحظورات سابقا انتقاد إسرائيل في قلب أوروبا، لكن خلال السنوات الأخيرة بدأت منظمات يهودية وحقوقية أوروبية تدفع باتجاه التمييز بين انتقاد سياسات إسرائيل ومعاداة السامية".
واليوم -يضيف الخبير- "بات واضحا أن المرء يمكن أن يكون يهوديا أو مسيحيا أو مسلما وينتقد إسرائيل دون أن يُتّهم بالعداء لليهود، هذا التحول جعل اللوبيات التي حاولت خلط الأوراق في مأزق، فلم تعد قادرة على التحكم في المشهد كما كانت سابقا".
ويرى المحللون أن الخطوة الأوروبية لا توقف الحرب في غزة، لكنها تفتح الباب أمام مسار تصاعدي قد يتسع حال استمرار الانتهاك.
ويقول ديبوف "الأمر يتوقف على موقف العواصم الكبرى، إذا لم تغيّر إيطاليا موقفها فلن ترى هذه الإجراءات النور، لكن مجرد طرحها يعكس بداية تحول سياسي مهم".
ويُظهر البرلماني اليساري بوتينغا تفاؤلا من تنامي التأثير الشعبي قائلا إن "هذه ليست سوى البداية، وإن الشعوب الأوروبية أثبتت أنها قادرة على فرض أجندتها على المفوضية"، مطالبا الحكومات بالتحرك الآن "لفرض حظر شامل وعقوبات حقيقية توقف الإبادة".
أما الساري فيختم مؤكدا أن القضية لم تعد اقتصادية بحتة، بل هي أيضا "مسألة سمعة"، وأن كل شركة أو صندوق استثمار دولي يواصل التعامل مع إسرائيل يجد نفسه تحت ضغط قانوني وأخلاقي متزايد، وأن "هذا قد يكون أقوى من أي إجراء حكومي منفرد".