تتعرض حرية الصحافة في تركيا لضغوطات خلال السنوات الأخيرة، وقد أثارت الاعتقالات التي طالت ما لا يقل عن عشرة صحفيين كانوا يغطّون احتجاجات واسعة مناهضة للحكومة في إسطنبول، كبرى مدن البلاد، مخاوف بشأن تنامي المخاطر التي تتهدد الصحفيين أثناء تغطيتهم لأصوات المعارضة.
وقد جرى توقيف الصحفيين خلال التظاهرات وكذلك خلال مداهمات في وقت من مبكر الصباح، إلى جانب أكثر من 1400 شخص، على خلفية الاحتجاجات التي اندلعت إثر اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، بتهم تتعلق بالفساد.
ويرفض إمام أوغلو الاتهامات، مؤكداً أنها ذات دوافع سياسية، وهو ما ينفيه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان.
وقد نُقل إمام أوغلو يوم الأحد إلى سجن شديد الحراسة في أطراف إسطنبول، في نفس اليوم الذي أُعلن فيه مرشحاً رئاسياً عن حزب المعارضة الرئيسي، ليصبح بذلك الخصم السياسي الأبرز لأردوغان في أي انتخابات مقبلة.
ومن المقرر أن تُجرى الانتخابات الرئاسية في عام 2028، رغم أن احتمال الدعوة لانتخابات مبكرة يظل قائماً.
ويُشار إلى أن معظم الصحفيين المعتقلين كانوا من المصورين، وقد وُجهت إلى سبعة منهم تهم تتعلق بانتهاك قانون التجمّعات العامة، وتم توقيفهم على ذمة التحقيق.
يقول إيرول أوندار أوغلو، ممثل منظمة "مراسلون بلا حدود" في تركيا: "إن الاستهداف المتعمّد للمصورين الصحفيين يُظهر أن القضاء يُستخدم كسلاح لقمع العمل الصحفي في أوقات الاضطرابات العامة".
وأضاف في حديثه إلى بي بي سي: "هذا دليل واضح على الدور الجوهري الذي تلعبه الصحافة في تشكيل الرأي العام، وعلى أن الحكومة تنظر إلى ذلك باعتباره تهديداً خطيراً".
وتحتل تركيا المرتبة 158 من أصل 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2024 الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود".
وتتفق إيفين بارِش ألتينتاش، مديرة جمعية "دراسات الإعلام والقانون"، وهي منظمة تُعنى بحرية التعبير وتدافع عن الصحفيين المعتقلين في تركيا، مع هذا الطرح، وتقول إن هذه الاعتقالات تعكس استراتيجية الحكومة في استخدام القضاء كأداة لتقييد حرية الصحفيين والحد من قدرتهم على التغطية.
وأضافت في حديثها إلى بي بي سي: "لا شك أن هذه الاعتقالات ستُحدث أثراً ردعياً على صحفيين آخرين، لكن رغم الخوف من العواقب، سيواصلون أداء عملهم".
مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات وردّ الشرطة باستخدام رذاذ الفلفل وخراطيم المياه، تواترت التقارير التي تفيد بتعرض صحفيين لسوء معاملة على يد قوات الأمن.
وتداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع مقطع فيديو يُظهر المصوّر تانسل جان وهو يعاني من صعوبة في الكلام بعد تعرضه لرذاذ الفلفل أثناء حملة قمع نفّذتها الشرطة.
وقال جان: "هاجمني ستة أو سبعة عناصر من الشرطة رغم أنني أكّدت لهم مراراً أنني صحفي وأريتهم بطاقة الصحافة".
وأضاف: "رشّوا الغاز مباشرة على وجوهنا، وضربونا بالهراوات وانهالوا علينا بالضرب ونحن ملقون على الأرض".
وقد أدانت منظمة "مراسلون بلا حدود" استهداف الصحفيين في تركيا، ودعت السلطات إلى تحديد هوية المسؤولين عن تلك الانتهاكات وملاحقتهم قضائياً.
بالإضافة إلى ذلك، تم تقييد الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي مثل "إكس" و"تيك توك" و"إنستغرام" و"يوتيوب" في تركيا، وفقاً لما أفادت به منظمة "نيت بلوكس" المعنية بمراقبة الإنترنت.
كما مارست السلطات ضغوطاً على بعض المنصات لحجب مئات الحسابات، ما زاد من القيود المفروضة على تدفّق المعلومات.
قال فريق الشؤون الحكومية العالمية في منصة "إكس"، عبر منشور على المنصة نفسها، إنهم "يعترضون على عدة أوامر قضائية صادرة عن هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التركية، تطالب بحجب أكثر من 700 حساب تعود لمؤسسات إخبارية وصحفيين وشخصيات سياسية وطلبة وغيرهم".
وأضاف الفريق: "نرى أن هذا القرار الصادر عن الحكومة التركية لا يفتقر فقط إلى الشرعية القانونية، بل يُعيق أيضاً ملايين المستخدمين في تركيا عن الوصول إلى الأخبار والنقاش السياسي في بلدهم".
لكن هذا التصريح قوبل بانتقادات من المدافعين عن حرية التعبير في تركيا، خصوصاً بعد تقارير أفادت بأن "إكس" استجابت لطلب السلطات التركية وحجبت العشرات من الحسابات.
وقال يامان أكدنيز، أستاذ متخصص في الحقوق الرقمية، في ردّ عبر "إكس": "لا مبرر للتواطؤ في الرقابة مع الادعاء بالدفاع عن حرية التعبير".
وأضاف: "في ظل غياب الإجراءات القانونية السليمة واستقلالية القضاء، تُعدّ تركيا من بين أسوأ الدول في مجال الرقابة على الإنترنت، وقد أصبحت منصة 'إكس' أداة فاعلة في تنفيذ هذه الرقابة".
كان المخرج غوتشلو يامان من بين الذين تم تعليق حساباتهم، وذلك بعد يوم واحد من نشره مقطع فيديو يُظهر اعتداء عدد من عناصر الشرطة على أحد المتظاهرين.
وقال يامان عبر منصة "إكس": "لا أعتقد أن إكس تدعم حرية الصحافة أو حرية التعبير بأي شكل من الأشكال".
وأضاف: "إنهم يقمعون صوت الناس ويقيّدون وصولهم إلى الجمهور، وأعتقد أنهم يعملون كحرّاس للحكومة التركية".
وقد أنشأ يامان حساباً جديداً على "إكس"، وصل عدد متابعيه حالياً إلى نحو 400، بينما كان حسابه المعلّق يحظى بـ18,500 متابع.
ولم يكن فريق الشؤون الحكومية العالمية في "إكس" قد ردّ على طلب التعليق من بي بي سي وقت كتابة التقرير.
يوم الإثنين، وجّه رئيس هيئة الرقابة على الإعلام في تركيا، إبوبكر شاهين، تحذيراً لوسائل الإعلام المستقلة وتلك المرتبطة بالمعارضة من احتمال فرض حظر طويل الأمد على البث أو سحب تراخيصها بالكامل إذا استمرت في تغطية الاحتجاجات.
وقال شاهين: "نكرر أن الجهات التي تدعو الناس للنزول إلى الشوارع، أو توفّر منبراً لخطابات غير قانونية، أو تبثّ محتوىً منحازاً يتعارض مع القانون، ستواجه عقوبات تتراوح بين حظر البث لفترات طويلة وصولاً إلى إلغاء الترخيص نهائياً".
واتّهم شاهين بعض الوسائل الإعلامية بالتحريض على الفوضى، ودعا الإعلام إلى الاعتماد فقط على البيانات الرسمية، كما نفى أن تكون تحذيرات الهيئة تهديداً لحرية الصحافة في تركيا.
إن الغياب شبه التام لتغطية الاحتجاجات الواسعة في إسطنبول يعيد إلى الأذهان ما حدث قبل أكثر من عقد من الزمن، عندما واجهت وسائل الإعلام التقليدية انتقادات واسعة بسبب تجاهلها لتغطية تظاهرات حديقة غيزي عام 2013، والتي كانت أكبر حركة احتجاج مناهضة للحكومة تشهدها تركيا منذ عقود.
ففي الوقت الذي كان فيه عشرات الآلاف يملأون الشوارع احتجاجاً على سياسات الحكومة، كانت القنوات الإخبارية الرئيسية تبثّ برامج لا علاقة لها بالأحداث، مثل أفلام وثائقية عن طيور البطريق، بدلاً من نقل مشاهد الاحتجاجات، وقد فُسّر هذا التجاهل على نطاق واسع بأنه نتيجة لضغوط حكومية، ما ألقى الضوء على التهديد المتصاعد الذي يطال حرية الصحافة في البلاد.
وفي تركيا، لا يزال نفوذ الحكومة على وسائل الإعلام التقليدية واسع النطاق، إذ تُدار نحو 90 في المئة من المنصات الإعلامية الكبرى من قبل أفراد أو جهات على ارتباط وثيق بالحزب الحاكم.
أما وسائل الإعلام البديلة، فهي تواجه قضايا قانونية، ورقابة، وعقوبات تعسفية، مما يضيّق أكثر على الفضاء الإعلامي في البلاد.
ودعت المعارضة مؤخراً إلى مقاطعة وسائل الإعلام الموالية للحكومة، والتي امتنعت عن تغطية الاحتجاجات، متهمةً إياها بخدمة أجندة السلطة وتجاهل مسؤولياتها الصحفية.
وقال أوزغور أوزَل، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، أمام حشود كبيرة خارج مبنى بلدية إسطنبول: "نحن نرصد كل القنوات التلفزيونية التي تجاهلت احتجاجات ما يقرب من مليون شخص في أحد ميادين إسطنبول".
وأضاف: "المقاطعة قادمة لتلك الجهات التي لا ترى هذا الميدان".
غالباً ما تكون كبرى المؤسسات الإعلامية في تركيا مملوكة لتكتلات اقتصادية تمتد مصالحها إلى قطاعات مختلفة.
وعقب دعوة أوزغور أوزَل إلى المقاطعة، انتشرت على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي قوائم بأسماء شركات يُعتقد أن لها صلات وثيقة بالحكومة.
وقال إيرول أوندار أوغلو من منظمة "مراسلون بلا حدود": "إذا تجاهلت وسائل الإعلام في تركيا احتجاجاً شارك فيه مئات الآلاف من الأشخاص، فلا يمكن اعتبار ذلك مجرد مسألة سياسية".
وأضاف: "هذا يعني أننا نعيش في مشهد إعلامي لم يعد فيه للصحافة المستقلة والموضوعية أي اعتبار" مشيراً إلى أن "الحكومة تسعى لتدمير كل وسيلة إعلامية نقدية، ولا أعتقد أنها ستتراجع عن ممارسة المزيد من الضغوط".
ولم تستجب هيئة تنظيم الإعلام لطلب مقابلة من بي بي سي.