كيف يمكن للباحث في العلوم الاجتماعية أن يتجنب العشوائية والارتجال وهو يتعامل مع موضوعات شديدة التشابك مثل الفرد والمجتمع والثقافة والسياسة؟ وكيف يستطيع أن يصوغ إشكاليته بوضوح، فيحكم أدواته النظرية والميدانية، دون أن يقع أسيرا لتصوراته المسبقة أو يغرق في بحر القراءات المبعثرة؟
وهل ثمة خطوات عملية دقيقة تساعده على الانتقال من مجرد تساؤل أولي إلى بناء معرفة علمية راسخة قابلة للاختبار والنقد؟
هذه الأسئلة المحورية يجد القارئ أجوبتها في كتاب "مناهج البحث في العلوم الاجتماعية: مداخل وتطبيقات" لمؤلفيه لوك فان كامبنهود، وجاك ماركي، وريمون كيفي، بترجمة الدكتور محمد الحاج سالم، ومراجعة وتقديم الدكتور الطيب بوعزة.
صدرت ترجمة الكتاب عن مركز نهوض للدراسات والبحوث بالعربية، بعد أن عرف مسارا طويلا من الطبعات بلغته الأصلية الفرنسية، وقد تُرجم إلى لغات عدة، وحظي باعتماد واسع في الجامعات الأوروبية والعربية، مما جعله واحدا من أبرز المراجع المنهجية في حقل العلوم الاجتماعية.
تتميّز العلوم الاجتماعية بموضوعها، إذ إنها تتناول ظواهر إنسانية ومجتمعية بالغة التعقيد، تتداخل فيها الأبعاد النفسية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وهو ما يجعل البحث فيها عرضة للانزلاق نحو الانطباعية أو الارتجال إذا لم يُسنَد إلى أدوات دقيقة.
من هنا، جاء الكتاب ليضع بين أيدي الباحثين خريطة طريق منهجية متدرجة، تنقلهم من لحظة صياغة السؤال الأولي إلى لحظة عرض النتائج والتوصيات، وتربط بين الجانب النظري والعملي في كل مرحلة.
فهذا الكتاب يأتي في سياق الحاجة الملحَّة إلى منهجية دقيقة تعين الباحثين على تجنُّب العشوائية، مستهدفا جعل البحث فيها مهمة دقيقة تتطلب وضوحا في التصور وصلابة في الأدوات من خلال تقديم خطوات عملية متسلسلة، تربط بين النظرية والتطبيق، بحيث يكون الباحث قادرا على صياغة إشكاليته، وبناء أدواته، ثم اختبارها ميدانيا، وتحليل نتائجها.
فالمنهجية هنا ليست مجرد ترف أكاديمي، بل هي شرط للبحث نفسه. إذ لا يكفي أن يجمع الباحث أكبر قدر ممكن من البيانات، بل عليه أن يضبط مساره الفكري والإجرائي منذ البداية، ليحوّل مادته إلى معرفة علمية قابلة للاختبار والنقد.
لم يكن هدف المؤلفين أن يقدّموا دليلا تقنيا لجمع البيانات وتحليلها فحسب، بل سعوا قبل ذلك إلى تدريب القارئ على تبني عقلية نقدية، قادرة على إدراك حدود المعرفة وإمكاناتها، لذلك شدّدوا على ضرورة التحرر من الأفكار المسبقة، والحذر من إسقاط الخلفيات الأيديولوجية أو التصورات القبلية على موضوع البحث.
ومن هنا، يتوجه الكتاب إلى طيف واسع من الباحثين: من الطلبة المبتدئين الذين يحتاجون إلى خريطة طريق واضحة، إلى المتمرّسين الذين يبحثون عن إطار نظري أعمق، وقد غدا مرجعا معتمدا في برامج الدراسات العليا، بفضل وفرة شروحه التطبيقية التي تساعد الباحث على الانتقال من التفكير الأولي إلى الإنجاز العملي.
يحذر الكتاب الباحثين من 3 عقبات متكررة في بدايات البحث قد تؤدي بهم إلى الفوضى أو الاندفاع المتهور، أو إلى تثبيط عزائمهم، أو تعقيد العمل ودخول اللبس فيه.
هذه العوائق الثلاثة قد تفضي إلى فوضى أو إحباط أو التباس، وهو ما يستدعي اعتماد مسار منهجي متماسك يقي الباحث من السقوط في هذه المطبات.
يبني الكتاب تصوره المنهجي على 3 أعمال كبرى، تتفرع بدورها إلى 7 خطوات أساسية تشكّل الهيكل العام للعملية البحثية:
العمل الأول: القطيعة، وتعني التحرر من التصورات الجاهزة والأحكام المسبقة التي قد تقيد الباحث، وتجعله يبحث عن براهين لاستنتاجات قررها مسبقا، فغالبا ما ينطلق الباحث من أسئلة يظن أنه يعرف إجابتها، أو من فرضيات متأثرة بخلفيته الثقافية أو الأيديولوجية، يدعو الكتاب إلى ضرورة ممارسة "انقطاع معرفي" يتيح النظر إلى الموضوع بعين جديدة، مفتوحة على الاحتمالات، بعيدا عن التحيز.
العمل الثاني: البناء، ويتضمن هذا العمل صياغة الإشكالية البحثية، وتحديد المفاهيم والفرضيات وبناء نموذج التحليل، فالبحث العلمي لا يقوم على أسئلة فضفاضة، بل يقوم على ضبط دقيق للموضوع، وتحويله إلى مشكلة بحثية قابلة للدراسة، هنا يبرز دور العودة إلى الأدبيات المرجعية، وتحديد موقع البحث بين الدراسات السابقة، وبناء إطار نظري يمكِّن الباحث من إجراء العمليات البحثية، وتحقيق النتائج المرجوة منها.
العمل الثالث: التجريب، وهو الجانب الميداني الذي يضع النموذج التحليلي على محك الإثبات، ويتضمن هذا العمل جمع البيانات، سواء من خلال الملاحظة المباشرة أو الاستبيانات أو المقابلات أو غيرها من الأدوات، ثم تحليلها وفق منهجيات كمية أو نوعية، وصولا إلى صياغة النتائج والخلاصات.
أولا: سؤال الانطلاق، وذلك بتحديد سؤال البحث، على أنْ يستحضر الباحث في ذهنه دائما أنه مؤقت، قابل للتعديل لأنه "بحث" أو "شيء ينقَّب عنه"، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية هذه الخطوة، فينبغي لزاما على الباحث أن يلتزم بصياغة سؤال بحثي يتصف بالدقة والوضوح، واقعي قابل للإجابة العلمية، قادر على الإيصال إلى فهم حقيقي ملائم للظواهر المدروسة بعيدا عن إجابات مسبقة.
ثانيا: الاستكشاف، وذلك باختيار القراءات وتنظيمها وإجراء المقابلات الاستكشافية، أو ممارسة طرق استكشافية تلائم موضوع البحث، بحيث يطلع الباحث على ما وصل إليه البحث في ميدان عمله، وآخر الأبحاث المتعلقة بموضوعه، وفي هذه الخطوة لا بد أن يكون الانتخاب محدودا والعمل على المواد المنتخبة منظما لاستخلاص أكبر الفوائد الممكنة، وأن تكون متصلة بسؤال الانطلاق، ومتنوعة المناهج أيضا، يستخرج منها عناصر منهجية تعينه في التحليل والتفسير.
ويقترح الكتاب على الباحث أن ينشئ جدولا عقب كلِّ مادة يقرؤها يحدد فيه الأفكار التي تضمنها النص من ناحية، ومن ناحية أخرى يصف بناء المقال وتسلسل الأفكار فيه، ثم يعدُّ ملخصا له اعتمادا على الجدول، ثم يعقد مقارنات بين التلخيصات المنجزة، ويستخلص منها ما ينفعه ويفيده في توجيه قراءاته القادمة وفي إنجاز بحثه.
ولا بد أن يصحب تلك القراءات المقابلاتُ الاستكشافية التي تنير له جوانب الموضوع، وتكون مع متخصصين في المجال المدروس، أو أشخاص أوصى بهم المتخصصون، أو مع الجمهور موضوع الدراسة والبحث، وينبغي أن تتسم بالقدر الأدنى من التوجيه، حتى لا تتحول إلى جلسات تقريرية لأفكار مسبقة عند الباحث، وينبغي أن تكون حيادية ومنفتحة على جميع الآراء والتوجهات.
وقد تستلزم هذه الخطوة خطوات تكميلية أخرى، مثل الاطلاع على وثائق وتحليلها، ليتمكن الباحث من اختبار الصلاحية البحثية لسؤال الانطلاق الذي صاغه أولا.
ثالثا: الإشكالية، وهي المسار النظري الذي سيتبعه الباحث في معالجة المشكلة التي أثارها سؤال الانطلاق، وذلك بفحص المعلومات المجموعة، وتحديد توجُّهات البحث الأساسية، فيحدد الباحث بأكبر قدر من الدقة موضوع البحث وإشكاليته، ويتحول سؤال الانطلاق إلى الأساس الذي يقوم عليه البحث.
رابعا: بناء نموذج التحليل، وذلك بوضع المفاهيم والفرضيات وآليات الاختبار في إطار متسق، بهدف رصد الواقع، لا من جميع جوانبه، وإنما يعتد بالجوانب الأساسية من منظور الباحث، ويحدد أبعاده المكونة له، ويعين مؤشرات قياس هذه الأبعاد.
وتعرف الفرضية بأنها مقترح أولي يسعى إلى الوصل بين مفهومين أو ظاهرتين، وتستلزم التأكد من صحتها، وعرضها لاحقا على البيانات المرصودة، وينبغي أن تكون قابلة للصدق والكذب.
خامسا: الملاحظة، وتجمعُ في هذه المرحلة البيانات كي تقارن منهجيا بنموذج التحليل، فلا بد في هذه المرحلة من جمع المعلومات ذات الصلة للكشف عن صحة الفرضية، ولا بد أيضا من تحديد نطاق التحليل جغرافيا واجتماعيا وزمنيا، ثم تحديد أدوات الملاحظة وطريقة جمع البيانات، ويمكن جمع البيانات بالملاحظة المباشرة أو بالاستبيانات أو بالمقابلات، ويمكن أيضا بالبحث في الوثاق وغيرها.
سادسا: التحليل، وذلك باستخدام أدوات التحليل الكمي (الإحصائي) أو النوعي (تحليل المضمون) لفحص صحة الفرضيات وفق المعلومات والبيانات المرصودة، وتُنجز هذه الخطوة في 3 عمليات؛ إعداد البيانات وجمعها، ثم تحليل العلاقة بين المتغيرات، ثم مقارنة النتائج المرصودة بالنتائج المتوقعة، وتفسير الفروق.
سابعا: الختم، وذلك بالتذكير بالخطوط الرئيسية للمسار المنهجي للبحث، ثم صياغة النتائج النهائية والإسهامات المعرفية التي قدمها البحث، ثم تقديم التوصيات وبيان الآفاق البحثية الجديدة التي لوَّح بها البحث.
تكمن قوة الكتاب في وضوح عرضه وعمق معالجته في آن واحد، فهو لا يفرض على الباحث قوالب جامدة، بل يمنحه خطة مرنة تسمح بتكييف الأدوات وفق طبيعة الموضوع. وقد حرص المؤلفون على تقديم تطبيقات عملية، مثل دراسة ظاهرة غياب الطلاب عن الجامعات، لبيان كيف تتحول الخطوات النظرية إلى ممارسة ميدانية ملموسة.
ومع أن الكتاب نشأ في سياق أكاديمي أوروبي، فإن إطاره العام صالح للتكييف في البيئات العربية، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، فهو مرجع يقدّم للباحث المبتدئ مسارا منضبطا، كما يزوّد الباحث المتقدّم بأدوات نظرية متينة.
وأخيرا، فإن كتاب "مناهج البحث في العلوم الاجتماعية" ليس مجرد دليل إجرائي، بل هو مرجع تأسيسي يغرس في الباحث روح التفكير النقدي، ويشجعه على الانفتاح والابتكار، ويمده بأدوات عملية لتجاوز العوائق المنهجية.
ومن هنا، يظل الكتاب حجر زاوية في تكوين الباحث الاجتماعي المعاصر، إذ يجمع بين وضوح المنهج وصرامة الأدوات ووعي السياق التاريخي والثقافي، ليقدّم في النهاية رؤية متوازنة لبناء معرفة علمية راسخة قابلة للتطوير.