يطلّ علينا في عالم السرد الحديث كاتبان تركا أثرًا بالغًا في هذا المجال، كلٌّ بطريقته الخاصة؛ الروائي الفرنسي مارسيل بروست (ولد 1871 وتوفي 1922)، الذي أبحر طويلًا في تلافيف الزمن، كمن يستجلب الذكرى من بئرٍ بعيدة، والكندية أليس مونرو (ولدت 1931) سيدة القصة القصيرة المعاصرة، التي رصدت طبقات الزمن كخسائر لا يمكن استعادتها.
ورغم التباين الشاسع بين عالم بروست الأرستقراطي وعوالم مونرو الريفية، فإن خيطًا خفيًا يربط بينهما، إنه الحب، ذلك الوعد الزائف الذي يتسلل إلى حياتنا على أطراف أصابعه كما لو أنه خلاص، وما إن يتمكن، يمسك بتلابيبنا ويقودنا، طائعين أو مذعورين، إلى المتاهة.
ربما لا شيء يُقرّب بين هذين الكاتبين أكثر من تلك العاطفة التي وُهبت للبشر فأساؤوا معاملتها، وكأن كليهما ترجم قول أفلاطون القديم على حدة: "نحب لأن في داخلنا نقصًا لا يكتمل"، هذا النقص داخلنا يفسره ابن حزم في طوق الحمامة حين يصف الحب بأنه "اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع"، وهذا الاتصال، عرضة للتحول والبتر، إذ إن الحب إن لم يقترن بالعقل والوفاء، سرعان ما يفسد أو يُفسد صاحبه.
تذهب سيمون دي بوفوار إلى أن ما يُفسد الحب ليس غيابه، بل توق أحد الطرفين إلى الذوبان في الآخر، كأن العلاقة لا تحتمل المسافة، أو التفكير في ترك مساحة للآخر باعتباره كائنا مستقلا ومختلفا، غير أن أقسى أنواع الفقد كما يرى المحبون، ليست في هذا النوع من الغياب، بل في الحضور الشبحي بحيث لا تستطيع الروح أن تبلغه، من هنا تبدو كل محاولة للتشبث بالآخر، محكومة بالخوف، فهل الحب -كما كتب جبران- طفل يولد في القلب ويكبر في الروح ثم يشيخ في اليد؟ أم أنه، كما في أعمال بروست ومونرو وغيرهما، اختبار متواصل لهشاشة الإنسان، ووعود لا تُستَوفى؟
كتب بروست البحث عن الزمن المفقود في غرفة مبطنة بالفلين، متكئًا على الوسائد وتحت وطأة الربو والعزلة، بعد أن خسر حبيبته إلى الأبد، لم يكتب ليسرد حياته، بل ليفككها كما يفكك الطفل لعبته المكسورة، وكأن الكتابة كانت محاولته الأخيرة للإمساك بما انفلت بين تفصيلة وأخرى، ولم يُسلِّم الروح، إلا بعدما استنفد اللغة وأفرغ نفسه عبر 7 مجلدات تمتد على 4 آلاف صفحة، كانت أشبه باعتراف طويل وشهادة لا على حياته وحدها، بل على العصر والحب والزمن وطبيعة الإنسان الغامضة، والأهم من ذلك كله، اعترافًا بأن الفن وحده يمنح الخلاص لكل ما سبق، وغفران ما لا يُغتفر.
في جانب منزل سوان، نسمع وجيب قلب الطفل -ذلك الخفقان القلق الممتزج بالانتظار واللهفة- الذي كانه مارسيل، يستعيد لهفته إلى قبلة أمه الدافئة قبل أن يغرق في فراشه الوثير وستائره المخملية، ليتوازى توقه إلى الحنان مع قصة حبّ عقيم بين سوان، صديق الأسرة، وأوديت، ذلك الحبّ الذي يبدأ باحتقار خفيّ، ثم يتحول تدريجيًا إلى هوس مَرَضيّ، تؤججه الغيرة التي لا تهدأ، ولأن أوديت لا تبادله هذا العمق، يظل سوان معلقًا بين الشك والتخيل، يصوغ لها صورًا لا تطابق حقيقتها، حتى ينهار في جملة لا تُنسى: "لقد أتعست نفسي من أجل امرأة لا أحبها، لم تعد تعني لي شيئًا".
لكن ما بدأ بسوان، ينتهي بالراوي نفسه مع ألبرتين، التي ظهرت عابرًا في الجزء الأول قبل أن تصبح الشخصية المحورية في الجزء الخامس "السجينة"، وإذا كانت أوديت قد أنهكت سوان واستنزفت سنوات عمره، فإن ألبيرتين ستتحول إلى متاهة تبتلع الراوي بكامله، لقد انتقل بها من بالبيك إلى باريس ليعزلها عن صداقاتها، متوهما أنه بذلك يحمي حبه: "أخذ انفصالها عن صديقاتها يفلح في تجنيب فؤادي عذابات جديدة"، لكنه يكتشف أن العزلة الجغرافية لا تضمن الراحة أو الإخلاص فينتهي إلى أن: "جوار باريس بمثل قسوة جوار بالبيك والواقع أني ظننت وأنا أغادر بالبيك أني أغادر عامورة وأنتزع منها ألبيرتين، لكن عامورة كانت -وا أسفي- موزعة في أركان العالم الأربعة".
مثل سوان -يبدأ الراوي بالتلصص- في ملاحقة التفاصيل، في تفكيك الكلمات بحثًا عن كذبة محتملة، ويحول الحب إلى مرآة لنزعاته الاستحواذية: "كنت أسألها أين تنوي الذهاب "أظن أن أندريه تود اصطحابي إلى منطقة ليه بوت شومون التي لا أعرفها"، كان يستحيل علي بالتأكيد أن أحرز بين هذا الكم من الأقوال الأخرى إن كان ثمة كذبة مخبأة تحت هذا القول"، (ترجمة: إلياس بديوي).
ثم تأتي لحظة الانهيار، فما اعتقده العاشق أنه وسيلة للاستحواذ على حبيبته، كان السبب في هروبها في الجزء السادس "الهاربة" وقد أدركت أنها أحبت رجلا غريبا يجردها من حريتها.
يحاول بروست استعادتها ولا يعود إليه الرسل إلا بخيبة الأمل، لقد انطلق العصفور من القفص الذهبي ويفضل البقاء في الشوارع الخلفية، هنا تنتابه نوبة من الحزن تدفعه إلى تأمل نفسه: "لقد اكتشفتُ أن الغيرة ليست دليلًا على الحب، بل على الرغبة في السيطرة، وكان ينبغي لي أن أكتشف في وقت أبكر أنني -في يوم ما- لن أكون في حالة حب مع ألبيرتين، لم يكن حبي لها بقدر ما كان حبًّا لما أشعر به أنا، كان حبّنا مكوَّنًا من عدد لا نهائي من حالات الحب المتعاقبة، ومن غَيرات مختلفة"، بعد ذلك، يأتي موت آلبيرتين المفاجئ ليقضى على كل محاولة ويعني غيابها إلى الأبد.
على النقيض من ألبيرتين التي اختارت حريتها، تاركة خلفها فراغًا مخيفا، تُصوّر أليس مونرو في قصة الهروب وجهًا آخر للانكسار، كارلا، تلك الفتاة التي تعيش مع زوجها كلارك في عزلة شبه ريفية، تدرك أن الرجل الذي فرت من بيت أهلها لأجله، يستشيط غضبا طوال الوقت "يتصرف كما لو أنه يكرهها، لم تعد تفعل أي شيء سليم، لم تعد تدري ما الذي يمكنها فعله، إن الحياة معه ستصيبها بالجنون، بل إنها تعتقد في أحايين كثيرة أنها جُنَّت بالفعل، أو أنه هو الذي فقد عقله في أحيان أخرى" (ترجمة: نهلة الدربي)
في لحظة دفاع عن الذات التي تحولت لخرقة، تقرر الانتصار لحريتها: "سأفعل أي شيء لأهرب، ولكني لا أستطيع، فليس معي أي نقود، وليس لدي مكان آوي إليه" تقولها لسيدتها سيلفيا الأرستقراطية فتعطف عليها وترتب معها للهروب الآن وعلى الفور، بالفعل تستقل الحافلة إلى تورنتو، وهناك في البُعد تبدأ المسافة التي لا تُحتمل.
تتخيل فراشًا غريبًا تنام فيه ووظيفة في إسطبل وشقة لا تعرفها، لكنها لم تستطع أن تتخيل نفسها هناك، تحيا على نحو يومي وسط حشود من البشر ليس من بينهم كلارك: "ستفتح فمها وتتحدث، ستفعل هذا وذاك، ولكنها لن تكون جزءًا منه في حقيقة الأمر"، في تلك اللحظة تنهار دفاعاتها، فتطلب من السائق بحزم، "أنزلني هنا"، تتصل بكلارك وتستجديه "تعال خذني، تعال خذني، أرجوك".
لكن الحكاية لا تنتهي بالعودة، بل تبدأ من حيث كان يفترض لها أن تُغلق: النعجة فلورا -الحيوان الوحيد الذي تحبه كارلا- كانت قد هربت قبلها، وعندما يذهب كلارك لسيلفيا ليرد لها ملابسها التي استعارتها الزوجة لتهرب ويعلن انتصاره على خطتهما الخائبة، يتفاجآن بظهور فلورا الضائعة كأنها شبح انبثق من وسط الضباب، ورغم اصطحابه للنعجة لا يُخبر كارلا، ولا تظهر فلورا مرة أخرى.
تعرف كارلا من خطاب لسيليفيا جاء فيه "إنها كانت تخشى أن تكون قد بالغت في التدخل في حياتها، وإنها ربما ارتكبت خطأً حين اعتقدت بأن سعادة كارلا وحريتها شيء واحد"، كما عرفت منه أن فلورا عادت ولكن زوجها لم يعدها إلى البيت، فأين هي إذن؟
في المشهد الأخير، تمشي كارلا وحدها نحو الغابة، حيث اعتادت أن تجد شيئًا من عزائها، ترى شيئًا على الأرض، جلد ناشف وبقع دم قديمة وبقايا عظام صغيرة، هل هذه فلورا؟ هل قتلها كلارك؟ هل وجد أن عقوبة الهروب هي القتل؟ تقاوم كارلا الإدراك، وتهمس لنفسها: "ربما لا يوجد شيء هناك".
لكننا نعرف -كما تعرف هي- أن هناك شيئًا مات، ربما الصوت الذي تجرّأ على قول "لا".
قد يبدو الحب شعورًا نقيًّا واندفاعًا نبيلًا نحو الآخر، توقًا إلى الاحتواء والسكينة، لكن ما إن نكشط طبقاته الأولى، حتى يتضح الوجه الحقيقي للقمر، أرض باردة عديمة الجاذبية تملؤها النتوءات، وتحت قشرة العاطفة تقبع هشاشة متخفّية واحتياج يتنكّر في هيئة عطاء، فالحب -كما يقول لاكان- لا يتجه إلى الآخر لذاته، بل إلى "رغبتنا في الآخر"، إلى الصورة التي نتوهم أنه سيملأ بها فجواتنا، إننا لا نحب من نحب، بل نحب أنفسنا في حضرته أو بالأحرى نحب أنفسنا في عيني الآخر.
لقد رأى أفلاطون أن الحب سلسلة من الترقيات تبدأ من الجسد وتنتهي عند الجمال المطلق، لكن الواقع -كما يخبرنا الرازي وابن سينا- أكثر التباسًا، فالرازي اعتبر الحب ابتلاءً يصيب الأرواح قليلة الحظ المائلة إلى الحس لا العقل، في حين وصفه ابن سينا -في القانون- بأنه عِلّة نفسية تستبين في الشرود والهذيان واضطراب المزاج، أما ابن عربي فرأى في العشق غاية لا وسيلة وعلّة لا يُطلب منها الشفاء، كما في صورة قيس الذي يهتف باسم ليلى كمن وجد ضالته في النداء، ربما لهذا لا يكون الحب بطولة كما صوّرته القصص، بل انكشافًا مؤلمًا نمدّ اليد إلى الآخر لا لنحتويه، بل لأننا نحن من نحتاج إلى الاحتواء.
في استدعاء ساخر لأسطورة الزوجة الوفية التي تؤجل المصير بتكتيك الصبر عنون جيمس جويس الفصل الـ18 من عوليس، بـ"بينلوبي"؛ المرأة التي ظلت تغزل طوال النهار وتفك غزلها في الليل، لتصد عنها الرجال ريثما يعود زوجها من حرب طروادة.
هكذا تظهر مولي بلوم أخيرا بعد 17 فصلًا لم نتعرف عليها إلا من خلال هواجس زوجها وردود فعل المجتمع تجاهها، ويتدفق صوتها هادرا كفيضان يخلخل كل شيء، وعلى عكس آلبرتين، التي يتم سردها من خلال كلمات جلادها، أو كارلا التي تروى بضمير الراوي العليم.
تكسر مولي الصمت بمونولوج لاهث بلا فواصل أو علامات ترقيم يمتد على 40 صفحة، لتهدم -بضمير المتكلم- كل أوهام الحب وقداسته نازعة ورقة التوت الأخيرة عن الحبيب: "فإذا فصد أنفه تظن الأمر أواه مأساة وتلك النظرة التي ارتسمت عليه وكأنه في النزع الأخير عند شارع الدائري الجنوبي لما التوى قدمه في الحفل الغنائي عند جبل قمع السكر، وعندما قطع إصبع قدمه بالموس وهو يكشط مسمار قدمه يتخوف من أن يصاب بتسمم في الدم ولكن لو حصل وكنت أنا المريضة فسنرى نوع العناية ولكن بالطبع ستخفي المرأة هذا كله ولن تخلق مشاكل مثلهم، وحكاية الفندق التي لفقها ما هي إلا أكذوبة، دخلت المطبخ ووجدته يتظاهر بأنه كان يشرب، امرأة واحدة لا تكفيهم والغلطة غلطته وبالطبع يفسد الخادمات، ولما اقترح على أن أخرج لينفرد بها (الخادمة) لن أحقر نفسي بالتجسس عليهما "، (ترجمة: د. طه محمود طه)
تتجلى براعة جويس حقا حين يُختتم المونولوج -والرواية كلها- باسترجاع الزوجة المغتاظة للحظة الزواج: "نعم عندما وضعت الوردة في شعري كعادة الفتيات الأندلسيات، وكيف قبلني تحت الحائط المغربي وقلت لنفسي إذن فهو أفضل من غيره، وسألته بعيني أن يعاود سؤالي فسألني أترضين نعم؟ لأقول نعم يا زهرتي الجبلية ووضعت أولا ذراعي حوله نعم، وضممته إليّ لكي يستطيع الإحساس بصدري كله عطر نعم، وكان قلبه يضرب كالمجنون، ونعم قلت سأرضى نعم".
لكن تلك الـ"نعم" التي تكررت مرارا، لم تكن يوما وعدًا بالامتلاء، بل فخًا يبدأ بالرعشة وينتهي بالهروب أو الصمت، وإلا فمن سيقبل صاغرا سياط الحبيب ومهانته، ألا يكفي ما قاله ابن حزم الأندلسي قبل ألف عام، حين عرف الحب كما لم يعرفه أحد: "الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة".