خارجة عن المألوف، بدت الجولة التي نظمتها قيادة الجيش لعدد من السفراء والقائمين بأعمال السفارات والملحقين العسكريين إلى جنوب الليطاني، من أجل الاطّلاع على تطبيق المرحلة الأولى من خطة الجيش لحصر السلاح بيد الدولة، علمًا أنّها الثانية من نوعها بعد جولة للصحفيين قبل أيام، وضعها كثيرون في إطار "التحشيد" الذي تقوم به القيادة لتأكيد قدرة الجيش على الإمساك بزمام الأمور، ومن أجل تفادي هجوم واسع تتوعّد به تل أبيب.
ولا شكّ أنّ أهمية هذه الجولة تنطلق أولاً من توقيتها، وقد جاءت في لحظة لبنانية شديدة الحساسية، على وقع التهديدات الإسرائيلية المستمرّة بتوسيع الهجوم، غير المتوقف أصلاً منذ اتفاق وقف إطلاق النار، ووسط حديث عن مهلةٍ مُنِحت للبنان حتى نهاية العام الحالي ستعمد إسرائيل بعد انقضائها، وربما قبل ذلك، إلى شنّ ضربة "نوعيّة" ضدّ " حزب الله "، وكأنّ قيادة الجيش أرادت استباق أيّ "خديعة" من هذا النوع، فنقلت النقاش من صفحات التقارير إلى الميدان.
وإذا كانت رسائل الجيش واضحة في هذا السياق، بحيث عرض ما أنجزه وما يقدر على إنجازه، وذهب لحدّ تحديد "سقف الممكن" أمنيًا وقانونيًا وسياسًا، فإنّ السؤال الذي يُطرَح يتمحور حول ما ينتظره الجيش في المقابل، ولا سيما أنّ هذه الجولة جاءت بالتوازي أيضًا مع حراك دبلوماسي لافت، بدأ في القاهرة، ويُستكمَل هذا الأسبوع في الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء المصري، فصلاً عن اجتماع باريس المنتظر، فهل تحقق الجولة غاياتها؟!
ماذا أراد الجيش أن يوصله؟
هكذا إذًا، لا يمكن اعتبار جولة الدبلوماسيين في جنوب الليطاني خطوة بروتوكولية فحسب، او تصنيفها على أنّها رحلة ترفبهية أو يوم "علاقات عامة" إن صحّ التعبير، إذ إنّ الجيش أراد أن يوجه من خلالها سلسلة رسائل أهمّها، أو ربما أكثرها مباشرة، أنه حاضر في جنوب الليطاني، ويتحرك بجدية، ويقوم بإجراءات ميدانية واضحة، من تفتيش ومصادرة ومتابعة، ضمن ما تسمح به الظروف.
يتقاطع ذلك مع رسالة ثانية توجّهها المؤسسة العسكرية للدبلوماسيين، فعندما يتعمّد الحيش إظهار أنفاق أو مخازن أو مواقع كانت مرتبطة سابقًا بالبنية العسكرية لحزب الله، فهو يحاول تثبيت فكرة أنّ الحديث عن حصرية السلاح ليس نظريًا بالكامل، وهناك خطوات تُنفّذ على الأرض، ولو ببطء، وضمن حدود دقيقة. ويبقى الأهمّ أنّ الجيش لا يعمل في فراغ، ولا يملك عصًا سحرية، وأنّ ما يفعله الآن هو ضمن "قواعد اشتباك" هدفها منع انتقال التوتر إلى الداخل.
وإلى هاتين الرسالتين الأساسيتين، يمكن القول إن الجيش ردّ ضمنًا من خلال هذه الجولة على الانتقادات والاتهامات التي طاولته في الآونة الأخيرة، خصوصًا في الخارج، بأنّ ما يقوم به لا يكفي، أو أنه يتلكأ، كما أنّه شدّد على "ثابتة" مهمّة بالنسبة للمؤسسة العسكرية، وهي منع تحويل الجيش إلى "أداة" في صراعات داخلية، بين من يريد حماية "حزب الله" ومن يسعى إلى المواجهة معه.
ماذا ينتظر الجيش من الدبلوماسيين؟
على أهمية الرسائل التي أراد الجيش توجيهها إلى الدبلوماسيين، ومن خلالهم إلى المجتمع الدولي ، فهو بلا شكّ ينتظر منهم في المقابل، تحرّكًا يستند إلى ما عاينوه بأنفسهم، من أجل نقل الصورة كما هي إلى عواصمهم ، بما يتيح أن يتحول "التفهّم" إلى دعم ملموس. ولعلّ الرسالة الأولى هنا واضحة، وقوامها أنّ لبنان ليس وحده سبب التوتر، وإذا كانت هناك رغبة فعلية في تثبيت الهدوء، يجب أن يكون الضغط على إسرائيل جزءًا من المعادلة، لا أن يبقى المطلوب من لبنان فقط أن يقدم التنازلات أو أن ينفّذ خطوات تحت النار.
هنا أراد الجيش أن يشرح للدبلوماسيين أنّ إسرائيل في مكان ما هي التي تشوّش على خطة حصر السلاح، بمواصلتها احتلال نقاط استراتيجية، علمًا أن الاعتداءات والخروقات المتكررة تضعف أي قدرة على بناء استقرار، وتربك أي خطة داخلية، لأنها تخلق شعورًا دائمًا بأن البلد تحت الابتزاز الأمني. وتتقاطع هذه الرؤية مع وجهة نظر أخرى تقول إنّ الجيش يؤكد في مكنا ما حاجته إلى الدعم السياسي، حتى لا تتحول المؤسسة العسكرية إلى "كبش محرقة".
يبقى الأهمّ وفق منطق الجيش أن تتحول الجولة إلى "مسار" إن صحّ التعبير، بمعنى أن تكون الجولة بداية لتنسيق دائم، لا حدثًا عابرًا كما درجت العادة في لبنان، حيث تصبح العلاقات مجرد اتصالات موسمية. بذلك، يبدو الجيش خلف السطول كما لو أنه يريد من الدبلوماسيين أن يتابعوا ويضغطوا ويؤمّنوا استمرارية الدعم، لأن المعركة هنا ليست أسبوعًا أو شهرًا، بل مسار طويل يحتاج إلى تثبيت قدرات المؤسسة، وتثبيت حضور الدولة، وتثبيت الحد الأدنى من الاستقرار.
وسط هذا الكمّ من الرسائل، ثمّة رسالة دقيقة موجّهة إلى الداخل عبر بوابة الخارج: المؤسسة العسكرية ليست بديلًا عن الدولة، وإذا كانت العواصم المعنية تريد نتائج، فعليها أن تساعد أيضًا في إنتاج لحظة سياسية داخلية تسمح بالقرارات. بهذا المعنى، فهي تفتح الباب أمام الاستحقاقات المقبلة، من لقاءات باريس، إلى زيارة رئيس الوزراء المصري إلى بيروت ، وما قد يتبعها من حراك عربي ودولي، فهل يتحول ما سمعه الدبلوماسيون على الأرض إلى دعم وضغط متوازن… أم يبقى مجرد "استماع"؟
المصدر:
لبنان ٢٤