آخر الأخبار

العنف خلف الشاشة: تصاعد العنف الرقمي ضد النساء ومعركة تشريع قانون يوقف الإفلات

شارك

مع التحوّل المتسارع نحو العالم الرقمي، لم تعد الاعتداءات على النساء محصورة بالشارع أو مكان العمل أو المنزل. فقد تمدّد العنف إلى مساحات جديدة خلف الشاشات، حيث يسهل الإخفاء، وتتسع القدرة على إيذاء النساء والفتيات دون رادع فعلي. ووفق بيانات قوى الأمن الداخلي ، فإن 80% من ضحايا الجرائم الإلكترونية بين عامي 2020 و2023 هنّ نساء، في واحدة من أكثر الإشارات وضوحًا على اختلال ميزان الأمان الرقمي في لبنان .

ولعلّ جائحة كورونا شكّلت نقطة انفجار غير مسبوقة في هذه الظاهرة؛ ففي شهر واحد فقط من الإقفال العام ارتفعت شكاوى الابتزاز والتحرش الإلكتروني بنسبة 184%. ورغم ازدياد البلاغات عبر منصة "بلّغ" الرسمية ،70% منها تقدّمها نساء، إلا أنّ الاعتداءات تواصل انتشارها، فيما يقف القانون عاجزًا أمام هذا التوسع، إذ لا يملك لبنان حتى اليوم تشريعًا خاصًا يعرّف العنف الرقمي أو يجرّمه بوضوح.

فجوة قانونية واسعة… وجرائم بلا إدانة

هذا الفراغ القانوني يجعل معظم الجرائم الرقمية بلا إدانة واضحة. فالقانون اللبناني لا يزال يحيل الاعتداءات الإلكترونية إلى قانون العقوبات التقليدي، الذي يعتمد على مبدأ "لا جريمة بلا دليل". وفي عالم تُحذف فيه الصور وتنشَر فيه المواد المسيئة خلال ثوانٍ، تصبح الضحية غير قادرة على جمع أدلة ثابتة.

تشرح المحامية ميساء شندر، وهي عضو في اللجنة القانونية في جمعية "Female" التي شاركت في صاغة مسودة قانون حماية النساء من العنف الرقمي لـ"لبنان٢٤"، أنّ هذه الفجوة تُعدّ "العائق الأكبر أمام الوصول إلى إدانة"، لأن معظم الناجيات "لا يملكن الأدوات التقنية أو الوقت لحفظ الأدلة". وتضيف أن المشروع الجديد ينقل عبء جمع الأدلة من الضحية إلى النيابة العامة والضابطة العدلية، ما يفتح المجال أمام تحقيقات فعّالة بدل تحميل الضحية مسؤولية إثبات الجريمة.

لكن المعضلة لا تقتصر على الإثبات، بل تمتد إلى العقوبات نفسها؛ فالقانون الحالي يقدّم عقوبات مخففة في قضايا التحرش أو التهديد أو الابتزاز الإلكتروني، وغرامات "شبه معدومة"، بحسب شندر، خصوصًا عندما تكون الضحية قاصرًا، إذ لا يحتوي القانون أي مواد تشدد العقوبة أو تعترف بخصوصية الجرائم التي تستهدف الفتيات.

"فيميل"… من التوعية إلى معركة التشريع

وسط هذا الواقع، برزت جمعية "فيميل" كصوت أساسي في الدفاع عن النساء في الفضاء الرقمي. فمنذ عام 2020، بدأت الجمعية بتسجيل ارتفاع لافت في حجم العنف الرقمي. وتقول المديرة التنفيذية للجمعية حياة مرشاد إنّ "كل إشعار يصل إلى هاتف امرأة قد يكون بداية كابوس"، في إشارة إلى حجم التهديدات والابتزازات التي تتلقّاها النساء.

خلال السنوات الماضية، قدّمت الجمعية استشارات قانونية ودعمًا نفسيًا واجتماعيًا لمئات النساء، إلى جانب أبحاث حول بيئة التشريع والسياسات الرقمية. ومن خلال هذا العمل، اكتشفت الجمعية "ثغرة قانونية كبيرة" تمنع النساء من الوصول إلى العدالة، فوضعت ورقة سياسات، ثم انتقلت عام 2024 إلى صياغة أول مشروع قانون لحماية النساء من العنف الرقمي.

شكّلت الجمعية لجنة قانونية تضم قاضيات وخبيرات في الحقوق الرقمية، وأطلقت حملة وطنية تحت شعار "البلوك المضمون… بكون بالقانون". وتؤكد مرشاد لـ"لبنان٢٤" أن الحملة حصلت على تجاوب واسع من الكتل النيابية، وأن الجمعية ضمنت حتى الآن توقيع "ما لا يقل عن عشرة نواب" لتقديم اقتراح القانون قبل نهاية السنة.

قانون يتجاوز حدود قانون التحرش الجنسي

رغم أنّ لبنان أقرّ عام 2020 قانونًا للتحرش الجنسي، فإن منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" تعتبره "خطوة غير مكتملة"، لأنه يحصر التحرش في أماكن العمل ولا يقدّم آليات وقائية قوية. وتشير المحامية ميساء شندر إلى أنّ هذا القانون "يعالج زاوية محدودة جدًا"، بينما العنف الرقمي ينمو في فضاء مختلف كليًا.

أما مشروع قانون حماية النساء من العنف الرقمي فيذهب أبعد بكثير من التشريعات الحالية، إذ يقدّم إطارًا شاملًا يبدأ بتعريف دقيق للعنف الرقمي القائم على النوع الاجتماعي، ويمتد إلى تفصيل أنواع الجرائم الإلكترونية وآليات وقوعها، مع توضيح أسباب تشديد العقوبات وفق خطورة الفعل واستهداف القاصرات.
ويحدد المشروع العقوبات المخصّصة لكل جريمة، ويضع مسارًا واضحًا للدعوى العامة والجهات القضائية المختصة بالنظر في هذه القضايا ، إلى جانب منح أوامر حماية فورية للضحايا، وتوفير منظومة متكاملة لحماية الشهود والمبلّغين والخبراء، إضافة إلى تحديد واجبات الحكومة في التوعية، والتدريب، وبناء قدرات المؤسسات لضمان تطبيق القانون بفعالية.
وتصف شندر المشروع بأنه "قانون متكامل لا يحتاج الرجوع إلى أي نص آخر"، معتبرة أنه "السابق الأول" في لبنان—بل من القلائل عربيًا—الذي يضع إطارًا تشريعيًا شاملًا للعنف الرقمي، بما في ذلك الجرائم ضد القاصرات.

حذف المحتوى… وتجريم من يعيد نشره
وفي خطوة تعد الأولى من نوعها، يتضمن مشروع القانون آليات فورية لحماية الضحية، أبرزها حذف المحتوى المسيء خلال مهلة زمنية قصيرة جدًا، ومنع إعادة تداوله تحت أي شكل. ولا يكتفي المشروع بذلك، بل يجرّم محاولات إعادة النشر أو التكرار، مع إمكانية الجمع بين الحبس والغرامة والخدمة الاجتماعية وفق خطورة الجرم.

وتقول شندر إنّ هذا التوجّه يعكس إدراكًا بأن العقوبة ليست فقط لإيلام الجاني، بل "لردعه ومنعه من تكرار الجريمة، وإعادة تأهيله في المجتمع الرقمي".

300 حالة شهريًا… وخوف يسكتت الضحايا

تشير تقديرات الجمعية إلى أنّ لبنان يشهد أكثر من 300 حالة عنف رقمي شهريًا، 80% منها تطال نساء وفتيات، وغالبية الضحايا قاصرات تتراوح أعمارهن بين 12 و20 عامًا. ومع ذلك، لا تتجاوز نسبة التبليغ 12% فقط.
توضح مرشاد أنّ الخوف من الفضيحة، والشعور بالعار، وانعدام الثقة بآليات الحماية هي أبرز أسباب هذا الصمت. وقد سجّلت الجمعية حالات وصل فيها العنف الرقمي إلى مستويات خطرة أدت إلى اضطرابات نفسية حادة… بل إلى الانتحار.
وتشدّد مرشاد على ضرورة استجابة شاملة تشمل وزارة التربية، الأسر، المدارس، والأجهزة الأمنية، مؤكدةً أنّ الجمعية خصصت خطًا ساخنًا (8111456) لتقديم الدعم للناجيات.

ثقافة العيب… والتحدي الذي يتجاوز الشاشات
على الرغم من أهمية المشروع، إلا أنّ العائق الأكبر يظل في البيئة الاجتماعية. فثقافة "العيب" التي تلوم الضحية بدلًا من الجاني، تُعدّ أحد أهم أسباب الإفلات من العقاب. وهو ما تحاول "فيميل" تغييره عبر حملات إعلامية ومبادرات توعوية.
لكن الجمعية ترى أن التشريع يظلّ حجر الأساس. فمن دون قانون واضح وصارم، ستبقى المنظومة عاجزة أمام تعقيدات الجرائم الرقمية التي يسهّل انتشارها الذكاء الاصطناعي، والتزييف العميق، وتقنيات الاختراق الحديثة.

هل يتحرك المشرعون قبل فوات الأوان؟
مع اقتراب مسودة القانون من أبواب المجلس النيابي، تتجه الأنظار إلى المشرّعين: هل يترجمون هذا الإجماع المجتمعي المتنامي إلى حماية فعلية للنساء؟ أم يبقى الفضاء الرقمي ساحة مفتوحة للعنف بلا رادع؟

في بلد ترتفع فيه البلاغات شهريًا وتتسع دائرة الضحايا، تبدو الحاجة إلى قانون للأمان الرقمي ضرورة لا تحتمل التأجيل. فالتشريع ليس مجرد إصلاح قانوني… هو إعادة الاعتبار لكرامة النساء، وضمان ألا تبقى الشاشة وسيلة لجرحهنّ في غياب الرقابة والمحاسبة.

وكما تقول إحدى المشاركات في حملة "فيميل": "نريد قانونًا يحمي… لا أن يبرّر. ومجتمعًا يسمع… لا أن يلوم".

لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا