آخر الأخبار

عيد استقلال آخر بلا عرض عسكري واحتفالات: لبنان في مرحلة مصيرية

شارك
في الذكرى الثانية والثمانين لاستقلال لبنان ، يأتي الثاني والعشرون من تشرين الثاني هذا العام بلا عرض عسكري في وسط بيروت ، ولا احتفالات رسمية على الصورة التي اعتادها اللبنانيون. فالجيش في الميدان لا في ساحة الاستعراض، والحدود الجنوبية مفتوحة على احتمالات تصعيد واسع، فيما تستمرّ الوساطات الإقليمية والدوليّة في محاولة لضبط إيقاع المغامرة الإسرائيلية التي تبدو بلا أفق حتى الآن.

وفي موازاة الغليان على الجبهة، تتكثّف الرسائل السياسية الداخلية. رئيس الجمهورية جوزاف عون يتمنى أن يحلّ عيد الاستقلال في السنة المقبلة من دون وجود أي شبرٍ محتلّ من الأراضي اللبنانية ، فيما يدعو رئيس مجلس النواب نبيه برّي "لتأمين الدعم للجيش لا التشكيك والوشاية والتحريض عليه". أما رئيس الحكومة نواف سلام، فيؤكد استعداد الدولة للانخراط في مفاوضات حول الحدود البرية والمناطق التي ما زالت إسرائيل تحتفظ بها.

وبين خطاب الجيش، ورسالة برّي، وإشارة سلام إلى التفاوض، يتحوّل الاستقلال إلى ساحة تداخل بين ثلاث لغات: لغة الميدان، ولغة السياسة الداخلية، ولغة الدبلوماسية الإقليمية والدولية. كما يتحوّل، مرّة أخرى، من مناسبة احتفالية إلى محطة اختبار جديدة لمفهوم السيادة نفسه: من يملك قرار الحرب والسلم، وأيّ دور للجيش في لحظة يصفها قائدُه بأنّها "مرحلة مصيرية هي من الأصعب في تاريخ الوطن"؟

الجيش في قلب العاصفة

صحيح أنّ قرار إلغاء الاحتفالات التقليدية بعيد الاستقلال ليس الأول من نوعه، لكنه هذه المرّة لا يأتي بسبب لوجستي أو بروتوكولي كفراغ في سدّة الرئاسة مثلاً، بل بسبب الظروف الأمنية الميدانية، وطبيعة اللحظة التي يصفها قائد الجيش العماد رودولف هيكل بأنها "من الأصعب في تاريخنا"، في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانية، وتواصل الاعتداءات التي تؤدي إلى وقوع شهداء وجرحى، وتمنع استكمال انتشار الجيش وتتسبّب بدمار واسع في الممتلكات.

وفي حين يصف قائد الجيش هذه المرحلة بـ"المصيرية"، يؤكد أنّ هذه الظروف تستلزم أعلى درجات الحكمة "بما يخدم المصلحة الوطنية والسلم الأهلي بعيدًا عن أي حسابات أخرى"، وهو كلامٌ يكتسب أهميته من طبيعة الدور المُنتظَر من الجيش في المرحلة المقبلة، بين حماية الداخل المهتزّ اقتصاديًا واجتماعيًا، وضبط الحدود والمخيمات، وكذلك مواكبة الضغوط الخارجية التي بلغت ذروتها، واضعة المؤسسة العسكرية "في قلب العاصفة".

وتتلاقى هذه الصورة مع الرسالة التي يبعث بها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في ذكرى الاستقلال، حين يشدّد على ضرورة "تأمين الدعم للجيش لا التشكيك والوشاية والتحريض عليه"، في محاولة واضحة لعزل المؤسسة العسكرية عن الصراعات السياسية اليومية، وتكريسها كمرجعٍ وطني جامع في لحظة انقسام حاد، انطلاقًا من قناعة وطنية، بل تاريخية راسخة، قوامها أنّ الجيش يكاد يكون العنوان الوحيد الذي يجمع اللبنانيين، ومتى خسِروه، كان الوطن هو الخاسر.

الجبهة الجنوبية بين التصعيد والوساطات

في الميدان، تبقى الجبهة الجنوبية العنوان الأبرز لـ"المرحلة المصيرية". فالتصريحات الإسرائيلية المتتالية، وآخرها كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن أنّ "تهديد حزب الله بات أخطر" وأنّ الجيش الإسرائيلي يستعدّ لـ"موجات تصعيد أكبر"، تعكس مناخًا من التوتر المفتوح على أكثر من سيناريو، من الضربات المحدودة إلى جولة قتال أوسع قد تمتد أيامًا وتضع القرى الحدودية تحت خطر متزايد.

يضاعف هذا الواقع الضغط على الدولة التي تريد تجنّب الانجرار إلى حرب شاملة، وفي الوقت نفسه عدم تقديم تنازلات مجانية تحت وطأة التهديد. ويتقاطع ذلك مع تطورات الميدان، خصوصًا بعد المجزرة التي ارتكبتها تل أبيب في مخيم عين الحلوة، والتي وُصِفت بالخرق الأعنف لاتفاق وقف إطلاق النار، في رسالةٍ قرأتها أوساط فلسطينية ولبنانية على أنها توسيع لدائرة الضغط لتشمل المخيمات، وربط ملف "السلاح غير الشرعي" بالمسار الأمني والعسكري على الحدود.

هكذا يتجاوز الاستهداف حدود الردّ التكتيكي إلى محاولة رسم مشهد أوسع، يُدفع فيه لبنان إلى التعامل مع أكثر من جبهة في وقت واحد: الجنوب، والمخيمات، والداخل الهشّ، في وقت تحاول الوساطات الدولية فتح "باب التفاوض" بين لبنان وإسرائيل بعد عجزها عن إلزام إسرائيل بتطبيق اتفاق سبق أن وقّعت عليه. وفي هذا السياق، يأتي الكلام عن استعداد لبنان للانخراط في مسار تفاوضي كجزء من محاولة تحويل الضغط العسكري إلى فرصة سياسية في مكان ما.

في المحصلة، قد يمرّ الثاني والعشرون من تشرين الثاني هذا العام بلا عرض عسكري ولا احتفالات، لكنّه بالتأكيد لن يمرّ بلا معنى سياسي. فإمّا أن يكون محطة يُعاد فيها تثبيت الجيش كعمود فقري للاستقلال وتُحسَم فيها وجهة التعاطي مع الجنوب والتفاوض، وإمّا أن يكرّس صورة بلد يعيش "مرحلة مصيرية" مفتوحة بلا أفق واضح، يستعيض فيها عن الاحتفال بالاستقلال بخطابات متكرّرة، فيما يبقى الامتحان الحقيقي معلّقًا على الجبهة وفي غرف التفاوض في آن واحد...
لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا