انطلاقًا من مقولة الرئيس
نبيه بري الشهيرة "ما تقول فول حتى يصير بالمكيول"، فإن ما طرحه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون لجهة استعداد
لبنان للتفاوض مع
إسرائيل لم يكن سوى فكرة مبدئية تهدف إلى خرق جدار الجمود الحاصل على الجبهة
اللبنانية المحكومة حصرًا بالاعتداءات
الإسرائيلية اليومية، وفي ظل الخطى الثابتة للجيش في منطقة عمليات "حصر السلاح" جنوب نهر الليطاني.
وهذا الطرح المبدئي بدأ يتبلور شيئًا فشيئًا مع مواصلة رئيس الجمهورية لقاءاته المكثفة مع رئيسي مجلس النواب والحكومة، وذلك بهدف توحيد الموقف اللبناني الرسمي، الذي سيأخذ في الاعتبار كل المعطيات الموضعية والموضوعية، الداخلي منها والخارجي. وقد يُعطى للمعطى الداخلي الحيز الأكبر من الاهتمام الرسمي، خصوصًا أن الرئيس بري يتحرّك بهذا الاتجاه بصفتين لاصقتين: الأولى بصفته رئيس السلطة التشريعية، مع ما لهذه السلطة من صلاحيات واسعة في إضفاء الصفة القانونية لأي اتفاق أو معاهدة، والثانية بصفته رئيسًا لحركة "أمل" والأخ الأكبر" لـ "
حزب الله ".
أمّا المعطى الخارجي فسيترك إلى حين مجيء السفير الأميركي الجديد إلى
بيروت ، وعودة الموفدة الأميركية مورغان اورتاغوس، وما يمكن أن يحملا معهما من ملفات وأفكار من شأنها أن تساهم في بلورة الطرح الرئاسي، ووضعه في إطاره العملي بعد أن يكون الموقف الرسمي قد تحدّدت أطره العامة في ضوء ما يكون قد تجمّع لدى الدوائر الرسمية من مؤشرات إيجابية من أكثر من عاصمة عربية وغربية، ومن بينها بالطبع تلك التي كانت لها مساهمات في التوصّل إلى التسوية الغزاوية، على رغم تعثّر خطواتها الأولى مع استمرار الغارات الإسرائيلية على أكثر من قطاع في غزة.
فالتنسيق الرئاسي العالي المستوى جاء لتفعيل التحرك اللبناني في كل الاتجاهات من اجل تحصين الموقف
اللبناني على الصعيدين الداخلي والخارجي تحت عنوان رئيسي وهو وقف العدوان الاسرائيلي، والسبل الكفيلة لإجبار العدو على تنفيذ آليات اتفاق وقف إطلاق النار والقرار 1701. وهذا ما قصده الرئيس بري عندما نعى أي إمكانية للتفاوض مع إسرائيل، بالمباشر أو بالواسطة.
وكما هو واضح فإن هامش التحرّك اللبناني ينحصر حاليًا بالسعي الجدّي لدى راعيي اتفاق 27 تشرين الثاني، أي
واشنطن وباريس والدول العربية والمجتمع الدولي لممارسة الضغوط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها وحملها على تنفيذ اتفاق وقف النار الذي لا تزال تخرقه ومنذ اللحظة الأولى لدخوله حيزّ التنفيذ.
فموقف الرئيس بري لا يعني بالضرورة عدم قيام الدولة بما يجب القيام به من خطوات لدرء أي خطر محتمل من الجانب
الإسرائيلي . فالتطورات الاخيرة، لا سيما اتفاق غزة وما جرى في قمة شرم الشيخ، تستدعي من لبنان ان تكون قضيته حاضرة بقوة على كل المستويات، خصوصا بعد تراجع وانحسار حركة الموفدين الاميركيين لأسباب معلومة وغير معلومة، ومنها ما تبلغته مراجع لبنانية من الدوائر الاميركية بان الاغلاق الحكومي في
الولايات المتحدة قد أثر في حركة الموفدين، ومنها الغاء الزيارة التي كانت مرتقبة للموفدة الاميركية مورغان اورتاغوس للبنان والمشاركة في الاجتماع الاخير للجنة مراقبة وقف النار، التي رأى فيها الرئيس بري الامكانية الوحيدة المتاحة، خصوصًا بعدما تمّ تفعيل دورها.
ومن غير المستغرب أن يكون تراجع التحرك
الاميركي وتمادي اسرائيل في عدوانها، قد فرضا على الرؤساء الثلاثة رفع وتيرة التنسيق في ما بينهم لمواجهة التطورات والمرحلة المقبلة، وإن كان لم يصدر أي تعليق رسمي لا من دوائر القصر
الجمهوري أو من السراي الحكومي على الموقف، الذي أعلنه الرئيس بري، وإن كان البعض يعتقد أن تاريخ هذا الحديث يعود إلى ما قبل الزيارة الأخيرة له للقصر الجمهوري.
لا شكّ في أن تمادي إسرائيل في اعتداءاتها مؤخرا واستهداف منشآت مدنية متصلة بإعادة الاعمار في المصيلح وانصار في الجنوب بعد اتفاق غزة، كان له التأثير المباشر على مواقف الرئيس بري. ومن خلال هذه المواقف يمكن طرح اسئلة جدية حول هذا التصعيد الخطِر، اكان من خلال عدد الغارات أو طبيعة الاستهدافات التي تؤكد هدف العدو، وهو منع اعادة الاعمار وعودة الاهالي الى الجنوب.
فاعتداءات العدو غير المبررة تنذر بعواقب خطرة وتعزز المخاوف من تنفيذ اسرائيل اعتداءات واسعة على لبنان، بهدف الضغط عليه من أجل دفعه إلى التفاوض المباشر واجباره على اتفاقات جديدة تتجاوز الطابع الامني واتفاق وقف النار الحالي والقرار 1701.