في بلد لم يلتقط أنفاسه منذ سنوات، يعود شبح البطالة ليخيّم من جديد على اللبنانيين، وهذه المرة من بوابة الصراع المستجدّ الذي أصاب شرايين الاقتصاد الخاص بالشلل. فبينما كانت المؤسسات الصغيرة تحاول النهوض من ركام الانهيار المالي، جاءت الحرب لتوجّه ضربة قاسية جديدة إلى القطاع الخاص، الذي يشكّل العمود الفقري لأي تعافٍ اقتصادي. القطاع الخاص، الذي يضمّ أكثر من 90% من اليد العاملة في
لبنان ، يعيش اليوم واحدة من أسوأ مراحله. ففي مناطق الجنوب والبقاع تحديدًا، توقفت مئات الورش والمعامل والمحال التجارية عن العمل، إمّا بفعل النزوح الداخلي، أو بسبب انقطاع الطرق، أو تراجع الطلب بشكل حادّ.
حتى في
بيروت والمدن الكبرى، تسود حالة من الترقّب والجمود، إذ يؤجّل المستثمرون قرارات التوسّع، وتقلّص الشركات حجم موظّفيها، وتجمّد الزيادات أو الحوافز. أصحاب المؤسسات يصفون الوضع بأنه “نزيف بطيء”، إذ لم يأتِ على شكل انهيار مفاجئ، بل كحالة مستمرة من الانكماش والاختناق المالي، جعلت الرواتب تفقد قيمتها أكثر فأكثر مع كل أزمة جديدة.
ضبابية المشهد: بين اقتصاد الحرب واقتصاد البقاء
يعيش لبنان اليوم واقعًا مزدوجًا: اقتصاد رسمي يتنفس بالكاد، واقتصاد ظلّ يتحرك على قاعدة "البقاء للأقوى".
الكثير من المؤسسات انتقلت إلى العمل غير النظامي لتفادي الرسوم والضرائب، فيما لجأ أصحاب الأعمال إلى تشغيل عمّال يوميين من دون عقود أو ضمانات.النتيجة: تآكل سوق العمل المنظّم، واتساع فجوة اللاعدالة بين العامل وصاحب العمل.
في المقابل، تظهر فئة جديدة من العاملين في مجالات رقمية وخدمات عن بُعد، تمكّنت من الصمود نسبيًا بفضل تعاملها بالدولار النقدي أو عبر المنصّات الإلكترونية. لكنّ هؤلاء لا يشكّلون أكثر من 10% من القوة العاملة، ما يعني أنّ الغالبية الساحقة ما زالت رهينة تدهور السوق الداخلي.
جيل الشباب... ضائع بين الهجرة والبطالة
الصدمة الأكبر تطال فئة الشباب. فبعد أن كانت الجامعات
اللبنانية تخرّج آلاف المهندسين والمبرمجين سنويًا، أصبح هؤلاء يبحثون عن تأشيرات خروج أكثر من فرص عمل .الهجرة عادت لتصبح حلمًا وضرورة في آن، بعدما تراجعت فرص التوظيف المحلي بنسبة تقدّر بـ40% في القطاعات التقنية والخدماتية. أحد خرّيجي
إدارة الأعمال يقول لـ"
لبنان24 ": "قدّمت سيرتي الذاتية لعشرين شركة، والجواب نفسه: الوضع صعب، خفّفنا عدد الموظفين. حتى لو وجدت عملاً، الراتب لا يكفي أسبوعًا."
النساء في مواجهة العاصفة
النساء العاملات كنّ في الصفوف الأمامية للأزمة.فالكثير من العاملات في المتاجر، في قطاع التعليم، أو في الخدمات الإدارية فقدن وظائفهنّ أو انتقلن إلى العمل الجزئي بأجور متدنية، في حين أُجبر البعض على القبول بعمل مؤقت بنصف رواتبهم السابقة، مؤكدين أنّ "الاستقرار المهني أصبح رفاهية في لبنان".
القطاع الذي كان يُعرف بمرونته وقدرته على التكيّف، أصبح اليوم أسير انعدام الرؤية الاقتصادية. فلا خطط حكومية واضحة لدعم الإنتاج أو التوظيف، ولا بيئة استثمارية مشجّعة، في ظل استمرار انهيار الليرة وتآكل القدرة الشرائية. حتى الشركات التي تعمل بالدولار النقدي بدأت تتأثر بالركود العام وبانكماش الطلب المحلي. ويحذّر خبراء اقتصاديون من أنّ استمرار هذا الواقع سيقود إلى مزيد من الإفقار الوظيفي، حيث يعمل الناس أكثر مقابل مردود أقلّ، من دون أي حماية اجتماعية أو مستقبل مهني مضمون.
في مواجهة هذا المشهد القاتم، تبرز الحاجة إلى سياسة اقتصادية واضحة تعيد الثقة إلى القطاع الخاص وتضمن حماية الحد الأدنى من الحقوق العمالية. ذلك يبدأ بدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتخفيف الأعباء الضريبية عنها، وفتح مساحات استثمارية حقيقية في القطاعات الإنتاجية، بدل الاكتفاء بتدوير الأزمات وتمويلها من جيوب المواطنين.
بين الحرب والغلاء، بين الحذر والاستسلام، يعيش سوق العمل
اللبناني على حافة الانهيار. وإذا لم تُتخذ خطوات جريئة لإعادة تشغيل الاقتصاد، فإنّ ما نخسره اليوم لن يكون مجرد وظائف، بل الركيزة الأخيرة التي كانت تمنح اللبنانيين شعورًا بالكرامة والإنتاج والانتماء.