آخر الأخبار

في مواجهة الضغوط.. الجيش يفرض معادلة التوازن

شارك
بين أوراق الضغط الأميركية ومناورات الداخل، خرج الجيش بخطته حول السلاح، لا كوثيقة تقنية فحسب بل كترسيم جديد لقواعد اللعبة. فما وُضع على الطاولة لم يكن خارطة طريق نحو الحل، بل كان إعلاناً صريحاً أن المؤسسة العسكرية ترفض أن تتحول إلى أداة في صراع الآخرين، وتتمسك بحقها في أن تحدد التوقيت والاتجاه وفق شروط الواقع لا أوهام السياسة.

فالخطة التي قُدمت الى مجلس الوزراء بلا مهل زمنية، وبمراحل متدرجة، ربطت أي تحرك ميداني بوقف العدوان وانسحاب الاحتلال ، ما أعاد تثبيت أن الجنوب ليس مجرد نقطة انطلاق، بل اختبار لصدقية القرار 1701. بهذا، قلب الجيش معادلة النقاش ، إذ لم يعد السؤال متى يبدأ التنفيذ، بل كيف يمكن للبنان أن يحصّل التزامات مقابلة قبل أن يخطو خطوة واحدة.

في المضمون، لم يكن غياب المهل صدفة، بل شكل انعكاساً لواقعية ميدانية تفرض نفسها. فالمؤسسة العسكرية تدرك أن الإمكانات الحالية محدودة، وأن أي تحرك يحتاج إلى دعم نوعي في العديد والقدرات التقنية والهندسية واللوجستية. لذلك صيغت الخطة على قاعدة أن القرار النهائي يبقى بيد الجيش، يتحرك وفق طاقته وظروف كل منطقة، لا وفق إيقاع تُرسم خطوطه في الخارج.

ولعلّ اختيار الوزراء الشيعة الانسحاب من الجلسة، جاء نتيجة إدراكهم أنّ بقاءهم كان من شأنه أن يُضفي شرعية على قرارات الخامس والسابع من آب، وهي قرارات يعتبرونها ساقطة ميثاقياً، ويتعاملون معها وكأنها لم تكن. هذا الموقف لم يكن إجراءً عابراً، بل خطوة محسوبة لتفادي أي انزلاق في الجلسات المقبلة نحو خيارات قد يدفع إليها رئيس الحكومة نواف سلام، ما قد يفتح الباب أمام مسارات لا يرغبون بها.
وفي جوهر ما تبلور، برزت نقطتان أساسيتان: الأولى أنّ الخطة خلت من أي جدول زمني ملزم، والثانية أنّ الجيش رفض تقييد نفسه بمواعيد مسبقة، مفضّلاً أن يعلّق التنفيذ على قدراته وظروفه الميدانية، مستنداً إلى مبررات تقنية واضحة. هذه المقاربة أراحت " الثنائي " كما أراحت قيادة المؤسسة العسكرية، لأنها أبقت الباب مفتوحاً أمام التحرك من دون الدخول في التزامات خانقة.

وبرز في الجلسة دور اساسي وحاسم لرئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي أعاد تصويب المسار على قاعدة التوازن، مانعاً تحويل الاجتماع إلى منصة لفرض التزامات تعجيزية. وجاء ربط التنفيذ بالتزام الطرفين الإسرائيلي والسوري ليمنح الدولة موقعاً أقوى، ويتيح لها المطالبة بثمن سياسي من واشنطن بدلاً من الارتهان لضغوطها. ومع ذلك، لا يزال "الثنائي" حذراً رغم النتيجة التي خرجت بها الجلسة، خشية أن تحمل الاجتماعات المقبلة قنابل سياسية على هوى رئيس الحكومة.

المشهد الذي تبلور بعد الجلسة بدا أقرب إلى تسوية ظرفية وُلدت بين أركان القرار السياسي والعسكري، فسمحت للبنان بالتقاط أنفاسه من دون أن تطوي الجدل حول أصل المشكلة. وفي المقابل، أبقى الجيش خطته مفتوحة من دون جدول زمني، مقدّماً مبررات تقنية واضحة أمنت له هامش مناورة يحميه من الالتزامات الثقيلة ويمنح القوى السياسية فرصة لالتقاط التوازن.

غير أن هذا التقدم لا يلغي الحذر. فالتسوية التي وُلدت من المناخ السياسي المحيط بالخطة وفّرت مخرجاً مرحلياً، لكنها أبقت الألغام قائمة، خصوصاً مع إدراك الجميع بأنّ الخارج لا يزال يترقب ليمسك بخيوط اللعبة متى سنحت الفرصة. وإذ أثبتت التجربة أن الورقة الأميركية فقدت قيمتها بعدما أظهرت إسرائيل تعنتاً واضحاً، فإن الرهان على حسم داخلي بدا وهماً سرعان ما انكشف أمام الوقائع.

بذلك، لا يمكن اعتبار ما جرى نهاية المعركة، بل مجرد محطة في مسار طويل سيبقى مرهوناً بموازين القوى الإقليمية. فالجيش اختار الواقعية كي يحمي نفسه من التورط في صدام داخلي أو فخ خارجي، والطبقة السياسية لجأت إلى تسوية مؤقتة تمنع الانفجار، فيما الخارج يراقب ليرى كيف يمكن استخدام الورقة اللبنانية في لعبة أوسع.

النتيجة أنّ لبنان لم يحسم خياره بعد، لكنه استطاع أن يفرض معادلة أكثر توازناً: لا تنفيذ بلا شروط، ولا التزام بلا مقابل. وفي زمن يُراد فيه تحويل البلد إلى ساحة مستباحة، فإن تثبيت هذا المبدأ يُعتبر مكسباً استراتيجياً، حتى لو كان مؤقتاً، لأن المعركة الفعلية لم تبدأ بعد، ولأن الآتي قد يكون أثقل وأعقد مما شهده اللبنانيون حتى الآن.
لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا