من الآن وليس بعد أول عاصفة، يجدر قول ما يتردّد همسًا كل خريف: الطرقات مهدّدة بالغرق مجددًا. المشهد معروف ومحفوظ: أنفاق تتحوّل إلى بحيرات، مداخل المدن تُغلق، سيارات عالقة وناس يسبحون فوق الإسفلت. ومع حكومة جديدة تكتفي حتى اللحظة باللجان و"غرف العمليات"وبيانات التطمين، لا أثر لأعمال صيانة جدّية على الأرض، ولا ورش ملموسة قبل الشتاء، حسب المواطنين، الذين لم تَفرق الصورة عن ما قبل الخطابات وما بعدها.. نحن عمليًّا تحت مظلّة العناوين… من دون مظلّة فعلية عندما تهطل السماء.
لماذا نغرق كل عام؟
ليس لأن المطر "استثنائي" فحسب. البنية نفسها خاسرة المباراة قبل صافرة البداية. شبكة صرف الأمطار في معظم المدن قديمة ومصمّمة على شدّات مطر لم تعد صالحة في مناخ يتّجه إلى زخّات أقصر وأعنف. جزء كبير من الشبكات مختلط بالصرف الصحي، ما يعني انسدادًا سريعًا عند أول فيضان. المصائد الأرضية أمام الأرصفة محشوّة بالأتربة وأكياس النايلون لأن تنظيفها موسمي ومتقطع لا قائم على جداول ثابتة. في الأطراف، أبنية عشوائية وسواتر ترابية تعدّلت منسوباتها من دون خرائط هيدرولوجية، فحُرفت مسارات المياه نحو الطرق العامة. عند الأنفاق، مضخّات، إن وُجدت، فهي غير محدثة تعمل على مولدات بلا صيانة كافية، وفي حالات كثيرة لا توجد تغذية احتياطية. والنتيجة سلسلة أعطال لا يحتاج تفكيكها إلى لجنة، بل إلى وجدان مهني بسيط: إذا لم تُجرَّف الأتربة وتُنظّف المصائد ويُختبر الضخّ ويُفصل الصرف عن المطر، وتُحدث البنى التحتية، ستُغرقُنا أول غيمة كثيفة.
في كل موسم، يخرج وزير أو اثنان بوعود "ملاحقة المقصّرين". ينتهي المشهد ببيانات فتح تحقيقات، ثم صمت. هذا ليس سوء نية بالضرورة، بل خلل بنيوي في المحاسبة: المسؤوليات متشظّية بين وزارة الأشغال والبلديات ومجالس الخدمات والمقاولين، والعقود غالبًا قديمة أو مُلحقة بإضافات "طارئة". عندما تغرق طريق، يبدأ تقاذف المسؤولية: من نظّف المصائد؟ من مدد
القطر ؟ من اختبر المضخة؟ ومن موّل؟ لتنام الملفات على رفّ "القوة
القاهرة ". هنا تحديدًا يُبنى سوء الظن العام: "الوعود لا ترتقي إلى دليل، والتهديد بالمحاسبة يتحوّل إلى لازمة بلا أثر".
ملف الدعاوى القديمة… لماذا لم يصل إلى نتيجة؟
على امتداد السنوات الماضية، رُفعت دعاوى وبلاغات بعد كل حادثة غرق، بعضها من متضرّرين وأخرى من جمعيات.
القاسم المشترك أنها لم تُفضِ إلى محاسبة سياسية أو إدارية ذات معنى. السبب قانوني وسياسي وإجرائي معًا. قانونيًا، ملاحقة الوزراء تقع ضمن اختصاص "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"، وهو مسار يتطلّب قرارًا اتهاميًا من مجلس النواب ولا يُفعَّل عمليًا. إداريًا، غالبية المخالفات تأتي تحت عنوان "التقصير الإداري" لا "الجرم الجزائي"، فتُعاد إلى التفتيش أو النيابات من دون إثبات ركن القصد أو الإهمال الجسيم. إجرائيًا، تضيع الأدلة.. لا محاضر فنية موثوقة، ولا سلاسل مسؤولية واضحة. بهذه التركيبة، يصبح الحديث عن "ملاحقة الوزراء" قنبلة دخانية تنقشع سريعًا، فيما يبقى الضحايا أمام تعويضات "حسن نية" إن وُجدت.
حكومة جديدة… وخطط قديمة
حتى الساعة، لا يظهر في الميدان ما يشي بأن الحكومة قرّرت كسر الحلقة. الزيارات الميدانية مرد زيارات، إن حصلت، والإعلانات تسبق الأعمال. لا خرائط علنية لنقاط الخطر المزمنة، ولا جداول تنظيف منشورة أسبوعيًا تُظهر كم مصيدة نُظّفت وكم مترًا من المجاري جُرف، ولا اختبارات علنية. الاستعداد الحقيقي يُقاس قبل المطر، لا بعده. وأي كلام عن "التحرّك الفوري" ساعة
العاصفة يعني أننا دخلنا طور المعالجة لا الوقاية.
ولفهم السيناريو الذي بات محطة سنوية، لا يحتاج المرء إلى مخيّلة واسعة. مع أول سحابة رعدية كثيفة، تتكدّس النفايات المتروكة على حوافّ الطرق في المصائد، فتُغلقها. تتراجع قدرة الشبكة على التصريف، فترتدّ المياه إلى المسارب الفرعية. عند الأنفاق
اللبنانية ، المشهد هو الابرز، إذ يكاد البلد الوحيد في العالم التي تُغلق فيه الانفاق عند أوّل شتوة، لتتعطل معها حركة الإسعاف والإطفاء والحركة اليومية كلّها. هنا يبدأ المواطنون ببثّ مقاطع الاستغاثة..تُعلن الوزارة "حالة طوارئ"، وتعود لازمة "محاسبة المقصرين". وفي اليوم التالي، يبدأ تنظيف المتضرّر لما تبقّى من سيارته ومنزله، فيما يواصل المسؤولون ترداد عبارة "كمّية أمطار غير مسبوقة". كل ذلك كان يمكن تفاديه بعمل هادئ منظّم قبل شهر لا ببطولة متأخرة بعد ساعة.
من دون دفتر صيانة منشور، لا حساب. من دون جردة أسبوعية للمجاري والمضخات، لا حساب. من دون مسح علني لنقاط الاختناق التاريخية يحدّد الجهة المسؤولة والمهلة والميزانية، لا حساب. ومن دون قرار سياسي يرفع الغطاء عن "المناطقية" في الأشغال، حيث تُفضَّل طرق على أخرى وفق اعتبارات انتخابية، لا حساب. هذه ليست شعارات.. هي أدوات تمنع تكرار المشهد وتؤسّس لمساءلة قابلة للإثبات. ومن حقّ الناس أن يعرفوا كل هذا...
تحذير أخير… لا تهويل
لسنا أمام "أسطورة شتوية". نحن أمام خطر متوقّع له اسم وعنوان وتاريخ. المناخ يتجه إلى زخّات أشدّ في وقت أقصر، والبنية التحتية لم تُحدَّث، والأجهزة المعنية لم تُظهر حتى الآن ما يكفي من العمل القابل للقياس. إذا تكرّر الغرق هذا الموسم، فلن يكون "قضاءً وقدرًا"، بل حصيلة مباشرة لسياسة اختصار الوقاية بخطاب. هذا المقال ليس بيان إدانة ولا اصطفافًا، بل هو إنذار مبكّر: أمام الحكومة فرصة ضيّقة لعكس المسار. ما لم نرَ أعمالًا لا عناوين، تنظيفًا مُوثّقًا، اختبارات علنية، فرقَ طوارئ مجهّزة، وخريطة مسؤوليات منشورة، فإن أول غيمة ستكون اختبارًا لا أحد يرغب في نتائجه.
الشتاء يطرق الباب. الطرقات ليست جاهزة. والناس سئموا من مشاهد الإنقاذ على "اللايف" وعبارة "سنحاسب". الحساب الحقيقي يبدأ اليوم، قبل المطر؛ وإلا فسنعود إلى نفس الصورة: بلدٌ يطفو فوق طرقاته… ومسؤولون يختبئون وراء الغيوم.