لم يعد الخطاب السياسي في لبنان ترفاً أو مناسبة للاستهلاك الداخلي، بل بات مؤشراً يرسم موازين القوى واتجاهات المرحلة المقبلة. وفي بلد تتقاطع فيه الانهيارات الاقتصادية مع الضغوط الدولية والمخاطر الإسرائيلية ، يصبح كل موقف صادر عن شخصية بحجم رئيس مجلس النوّاب نبيه بري قراءة في المشهد أكثر مما هو تصريح سياسي عابر. ومن هنا اكتسب خطابه امس دلالته، إذ بدا محاولة لإعادة تعريف طبيعة الصراع وحدوده، ولفرض خطوط حمراء في لحظة يُراد فيها دفع لبنان نحو خيارات قاتلة.
انطلاقاً من ذلك، يمكن القول إنّ خطاب
بري لم يكن محطّة خطابية، وإنّما إعلان واضح أنّ المواجهة مع
إسرائيل لا يمكن اختزالها بخط جغرافي أو ملف تقني، بل هي مواجهة مع مشروع توسّعي يضع لبنان كله في دائرة الاستهداف. بهذا المعنى، حاول برّي نقل
النقاش من سجالات داخلية ضيقة إلى سؤال أكبر: هل المطلوب صون عناصر القوة التي حالت دون ابتلاع لبنان، أم التخلّي عنها تحت ضغط وعود واهية؟
الخطاب لم يكن مجرّد موقف سياسي، بل لحظة قلبت الموازين وأعادت تركيب المشهد على أسس جديدة. والرهانات التي صُرفت على تمايز بري عن "
حزب الله " تهاوت تباعاً، بعدما أثبت خطابه أنّ الحديث عن تصدّعٍ داخل "
الثنائي " لم يكن سوى وهم إعلامي. هذا الثبات أعاد تثبيت وحدة المعركة، وحوّل الكلمة إلى نقطة فاصلة تتجاوز العلاقة بين "حركة أمل" و"حزب الله"، لتضع المواجهة كلها في سياق صراع أوسع مع المشروع الأميركي –
الإسرائيلي .
في هذا السياق، برز التبدّل اللافت في نبرة الزعيم
وليد جنبلاط مؤخراً، وهو تبدّل لا يمكن قراءته إلا على ضوء نقاش معمّق جرى بينه وبين بري. ولعلّ خلفية هذا النقاش لم تكن تقنية ولا ظرفية، بل تناولت، وفق مصادر مطّلعة، هواجس على أكثر من مستوى: من أمن الطائفة الدرزية في لحظة إقليمية مضطربة، إلى موقع الزعامة الذي يمثله جنبلاط وما يفرضه من حسابات داخلية وخارجية. وهكذا تحوّل النقاش إلى إطار أوسع، أعاد صياغة هذه الهواجس كجزء من مقاربة وطنية لا تنفصل عن التوازنات العامة في البلاد.
بهذا الترابط، تظهر أهمية الرسائل الداخلية التي حملها بري. فالحديث عن الميثاقية لم يكن مجرد تلويح سياسي، بل تحذير من أنّ تجاهل التوازنات قد يفتح الباب أمام أزمة حكومية عميقة. ومع ذلك، لم يكن الهدف إشهار ورقة الاستقالة، بل وضع القوى السياسية أمام مسؤولياتها: إمّا العودة إلى التفاهم، وإمّا ترك البلاد تنزلق نحو فتنة جديدة.
ولعل الرسالة الأشد وضوحاً كانت في ما يتعلّق بالمؤسسة العسكرية؛ فحماية الجيش لم تُطرح كشعار إنشائي، بل كضرورة استراتيجية تمنع انهيار آخر أعمدة
الدولة على اعتبار أن إدخال الجيش في لعبة المحاور أو تحميله نتائج خيارات تُدار خارجياً يعني ببساطة تفجير التوازن الوطني.
وبالانتقال إلى البعد الإقليمي والدولي، بدا خطاب بري أشبه برسالة ردع سياسية. فالتلويح بالورقة الأميركية قوبل بجواب مباشر، لا مكان لإملاءات تُفرض بالقوة الاقتصادية أو بالعقوبات، وأي محاولة لتطبيقها ستواجه جداراً صلباً. وبمعنى آخر، فإنّ لبنان لا يملك ترف التنازلات، وأي تفريط بعناصر قوته سيقود إلى فوضى مفتوحة.
في المحصلة، فإنّ ما طرحه بري رسم خط تماس سياسي جديد. هو خطاب أنهى رهان الانقسام بين "الثنائي"، وأثبت أنّ السيادة لا تُبنى بالشعارات، بل بتثبيت عناصر القوة الداخلية ومنع الفتنة، وإبقاء الباب مفتوحاً أمام حوار وطني يضمن التوازنات. الرسالة لم تكن رفعاً للسقف فقط، بل شكلت إعلاناً بأنّ لبنان ما زال قادراً، رغم انهياره، أن يفرض شروط بقائه إذا التُقطت إشارات الحوار قبل أن تتحوّل الأزمة إلى مسار لا عودة فيه.