لا شكّ في أن كلام الرئيس نبيه بري كونه رئيسًا للمجلس النيابي أولًا، وبصفته الحركية ثانيًا، قد أعاد الحديث عن مسألة حصر السلاح بيد القوى الشرعية اللبنانية إلى مربعه الأول، خصوصًا أنه جاء قبل خمسة أيام من جلسة مجلس الوزراء المؤجّلة من الثلاثاء إلى يوم الجمعة من دون أن تتضح الأسباب الحقيقية لهذا التأجيل، وإن كان البعض يضعها في خانة "التراجع التكتيكي" عن قرارات جلستي 5 و7 آب الماضي.
ففي هذه الأيام الخمس يُتوقع أن تحفل الساحة السياسية بدفق من التعليقات على كلام الرئيس بري، سواء أتى من الحكومة أو من "القوى السيادية"، وبالتالي يمكن معرفة ما ستكون عليه ردود الفعل هذه استنادًا إلى مواقف سابقة لكل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورؤساء الأحزاب والقوى السياسية، التي لا تزال ترى أن عقدة العقد في أي حل هو عدم تخّلي "
حزب الله " عن سلاحه بأي طريقة من الطرق، من دون أن يعني هذا الموقف التحريض على الفتنة الداخلية وزجّ الجيش في مسألة يجب أن تُحّل بالسياسة وليس عن طريق القوة. وهذا ما سبق أن عبّرت عنه جميع هذه القوى مجتمعة أو منفردة.
فالحكومة ستسعى على الأرجح إلى مقاربة متوازنة لكلام الرئيس بري، وذلك في سياق دعواته السابقة إلى الحوار بعيدًا عن فرض الأمر الواقع. ويُرجّح أن تتجنب الحكومة الدخول في سجال مباشر معه، حفاظًا على التماسك الحكومي ومنع انفجار الخلافات داخل مجلس الوزراء.
لا شكّ في أن بعض الوزراء، وخصوصاً أولئك المنتمين إلى "الخط السيادي"، قد يلمّحون إلى أن أي حوار حول السلاح يجب أن يقود في النهاية إلى حصرية القوة العسكرية بيد الدولة، لكن من دون تحدٍّ مباشر للرئيس بري.
أمّا في ما يتعلق بـ "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية" وبعض المستقلين فسيركزون حتمًا على أن السلاح لا يمكن أن يبقى خارج سلطة الدولة، وسيعتبرون كلام بري محاولة جديدة لتأجيل أو تدوير الزوايا. قد يوافقون ربما على مبدأ الحوار، لكنهم سيطالبون بجدول زمني واضح وآلية تطبيقية لحصر السلاح، مع تأكيدهم على أن طاولات الحوار، وبالأخصّ تلك التي رعاها الرئيس بري شخصيًا، واستكملت في القصر
الجمهوري برئاسة الرئيس ميشال سليمان انتهت إلى خلاصة مفادها أن "بلّوا إعلان بعبدا واشربوا ميتو".
لكن ما جاء في كلمة الرئيس بري تلميحًا من دون أن يسمي أحدًا بالاسم عن "الشيطنة" و"التنمير" و"العمالة" لن يمرّ مرور الكرام بالنسبة إلى هذه القوى، التي أكدت حرصها الدائم على التمييز بين "حزب الله" الذي يمتلك سلاحًا غير شرعي، والذي قاد البلاد إلى التهلكة، وبين الطائفة الشيعية كونها من بين الطوائف الأساسية في التركيبة التوازنية القائمة على أساس دعم الدولة ومؤسساتها الشرعية، وفي مقدمها المؤسسة العسكرية.
وقد توقفت هذه القوى مليًا عند كلام الرئيس بري، وفيه: "إن المرحلة ليست لنكء الجراح، ولا للرقص فوق الدماء ، مددنا اليد بصدق وانفتاح من أجل التعاون للعمل سوياً لإنقاذ
لبنان فأنجزنا الاستحقاق الرئاسي ورحبنا وأيدنا ودعمنا كل ما جاء في خطاب القسم ، رغم إدراكنا بأن من يقود حملات التنمر السياسي والشتم والشيطنة والتحقير على نحو ممنهج بحق طائفة مؤسِسة للكيان اللبناني ، هو هو قبل العدوان وخلاله ولا يزال حتى الساعة، كان يعمل في السر والعلن على إطالة أمد الفراغ، مراهناً على وقائع العدوان
الإسرائيلي ونتائجه التي قد ينجم عنها خللاً في موازين القوى وانقلاب المعادلات، علها تكون فرصة لإعادة ضخ الحياة في مشاريع قديمة جديدة ولو كانت على ظهر دبابة إسرائيلية".
واعتبرت أوساط مقربة من هذه القوى أن كلام الرئيس بري فيه اتهام واضح لفئة لبنانية قررت أن تضع مآسي الماضي وراء ظهرها بـ "العمالة لإسرائيل"، عندما أعاد إلى الذاكرة الحديث عن "مشاريع قديمة جديدة ولو كانت على ظهر دبابة إسرائيلية". وهذا الاتهام في رأي هذه الأوساط من شأنه أن يعيد خلط الأوراق السياسية مرّة جديدة، ومن شأنه أيضًا أن يدفع الوضع الأمني إلى ما قبل 27 تشرين الثاني الماضي، إذ أن المستفيد الوحيد من هذه الجدلية البيزنطية الداخلية هي
إسرائيل .
أمّا بالنسبة إلى "الحزب التقدمي الاشتراكي" فإنه سيكون على الأرجح أكثر ليونة، فيدعم مبدئياً أي طاولة حوار وطنية شرط أن تكون شاملة ومرتبطة بقرارات واضحة، لكنه لن يصطدم مباشرة ببري.
وكعادته، فإن "
التيار الوطني الحر سيعتمد على حساباته مع "حزب الله" ورئيس مجلس النواب في آن واحد، وذلك عشية الاستحقاق النيابي، إذ أنه من المتوقع أن يوافق على الحوار لكنه يطرح نفسه كوسيط أو ضامن للتوازن.
وفي المحصلة النهائية لهذه الجدلية يمكن القول بأن الرئيس بري أراد أن يربط النقاش بإستراتيجية وطنية للدفاع وبإطار "توافقي وهادئ"، أي عملياً يضع شرطاً أساسياً، وهو أن لا بحث تحت الضغط أو في ظل انقسامات حادة، فيما ترى "القوى السيادية" أن هذا الشرط يعني عملياً إبقاء السلاح خارج التداول، لأن أي "توافق" صعب المنال في ظل موازين القوى الحالية، على أمل أن تبقى الأجواء في إطار المناوشة السياسية أكثر منها مواجهة حاسمة، في انتظار تطورات إقليمية أو داخلية قد تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، أقله أميركيًا.