الرّام (القدس): في حين كانت وسائل الإعلام تتداول اسم جهاد عمر حسن قزمار (58 عاما) كضحية فلسطينية جديدة بعد ارتطام رأسه في الأرض لدى محاولته اجتياز الجدار الفاصل ببلدة الرام شمال مدينة القدس المحتلة، في محاولة للبحث عن عمل، كانت مواقع التواصل الاجتماعي العبرية تتداول باستهزاء مقطع فيديو لفلسطيني عالق بين الأسلاك الشائكة أعلى الجدار على ارتفاع نحو 8 أمتار.
وقزمار واحد من 8 عمال فلسطينيين توفوا أو استشهدوا عام 2025، إضافة إلى مئات الجرحى، خلال محاولتهم دخول القدس أو ملاحقة الاحتلال لهم في شطري المدينة التي قسمها الجدار منذ عام 2002.
ويبلغ طول الجدار المحيط بالقدس حوالي 168 كيلومترا، ويرتفع 8 أمتار تعلوه أسلاك شائكة، ملتهما أراضي المدينة ومسببا لشتات شمل عائلاتها.
وقال مدير دائرة الإعلام في محافظة القدس، عمر رجوب للجزيرة نت إن الإصابات في صفوف العمال والمواطنين باتت تُسجّل بشكل يومي، سواء بالرصاص الحي أو نتيجة السقوط عن الجدار أو بسبب الاختناق الشديد جراء استخدام جيش الاحتلال قنابل الغاز، مشيرا إلى أن العدد الحقيقي للمصابين يفوق بكثير ما يُعلن عنه، في ظل رفض العديد من الجرحى تلقي العلاج أو نقلهم بسيارات الإسعاف خوفا من الاعتقال والملاحقة.
في بيتها المطل على جدار الفصل العنصري في بلدة الرام، تعيش الفلسطينية شيرين محمود مع زوجها وطفليهما حياة متأهبة طوال الوقت، وتشاهد يوميا عشرات المحاولات لاجتياز الجدار والتي يتعرض فيها العمال لخطر الملاحقة والاعتقال وحتى القتل، لكن هذا ليس الجانب الوحيد الصادم بالنسبة لها.
في حديثها للجزيرة نت، تقول: أحيانا كثيرة أشاهد نساء وأطفال يجتازون الجدار، وهذا يشعرني بصدمة كبيرة من شدة الواقع المر الذي نعيشه لتضطر هؤلاء السيدات للعبور إلى الشق الآخر من المدينة بهذه المخاطرة العالية، وذلك من خلال ربطهن بحبل وإنزالهن على الجهة الأخرى "حتى صعود السلم يكون صعبا عليهن، أعرف أنهن في هذه اللحظات يسلمن أرواحهن لله لأنهن لا يعلمن إن كان بإمكانهن النزول عن الجدار بأمان أم أن رصاصة قناص ستصيبهن".
وقال شهود عيان (فضلوا عدم ذكر أسمائهم) للجزيرة نت إن النساء والأطفال الذين يضطرون لهذه الطريقة للوصول إلى القدس هم في عائلات يكون أحد الزوجين فيها من سكان القدس والآخر من سكان الضفة، ومن أسرٍ ترفض إسرائيل منحهم معاملات لم الشمل التي يتمكنون بموجبها من الحصول على أوراق ثبوتية تسمح لهم بالدخول إلى القدس عبر الحواجز، مما يضاعف تعقيدات حياة هذه العائلات.
وفي هذا السياق قال رجوب إن سياسة الاحتلال في ملاحقة كل من يقترب من جدار الفصل العنصري وإطلاق النار عليه تستهدف عائلات مقدسية حُرمت من لمّ الشمل، وأطفالا مُنعوا من الوصول إلى آبائهم أو أمهاتهم، إضافة إلى مرافقي مرضى رفض الاحتلال إصدار تصاريح لهم لمرافقة مرضاهم لتلقي العلاج في مستشفيات القدس، ما اضطرهم إلى سلوك الطرق ذاتها الخطرة عبر الجدار وتحت تهديد الرصاص والملاحقة.
وفي إشارة إلى تصريحات وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بأن التعليمات حاليا هي إطلاق النار على "المتسللين" في إشارة للعمال، أضاف رجوب أنها تحمل "تحريضا سافرا يمنح الجنود والشرطة ضوءا أخضر لاستخدام القوة القاتلة دون مساءلة (…) وتفتح شهية الجنود لاستهداف العمال الفلسطينيين بلا حساب، في ظل غطاء سياسي وأوامر رسمية تحوّل لقمة العيش إلى تهمة، والعمل إلى سبب للقتل".
أمام النافذة الكبيرة التي تطل على جدار الفصل العنصري، اعتاد "كرم" طفل السيدة الفلسطينية، ذو الثلاثة أعوام أن يمضي وقتا طويلا حيث يودع والده قبل ذهابه إلى العمل، ويترقب عودته من خلال ذات النافذة، لكن هذا كلَّه تغيَّر على نحو كبير قبل عدة أيام، حينما اخترقت قنبلة غاز منزل جيرانهم في ذات العمارة، مؤدية لاختناق الأطفال واحتراق مقتنيات في المنزل.
"منذ ذلك اليوم، شعر طفلي كرَم بخطر مع كثرة الحركة والأصوات داخل العمارة خصوصا صوت أطفال الجيران الذين اختنقوا بالغاز، ورغم أنه يحب دوما تقمص دور رجال الإطفاء لكنه حينما رأى سيارة الإطفاء أمام العمارة خاف، ومنذ ذلك الوقت أصبح ينقطع تركيزه فجأة أثناء لعبه ليتأكد إذا كان هناك قنابل أو جنود أو عمال، وأصبح يفضل البقاء في الجانب الآخر من المنزل البعيد عن الشارع لأنه يشعر بأنه أكثر هدوءا وأمانا بالنسبة له".
تعود بنا والدة الطفل إلى عدة شهور مضت حين كسرت قنبلة غاز نافذة المنزل واستقرت في غرفة الجلوس للعائلة حيث يمضي الصغيران وقتهما في اللعب فيها، وتصادف ذلك مع وجود والدهما الذي تدارك الموقف بشكل سريع لإنقاذ عائلته من خطر الاختناق. وتساءلت "ماذا لو لم يكن زوجي هنا في ذلك اليوم؟ أعيش يوميا مع هذا الخوف، أن يرمي الجنود قنبلة وهو في العمل، ماذا سأفعل مع الصغار لحظتها؟".
وبشكل شبه يومي تقتحم قوات الاحتلال بلدة الرام وتطلق قنابل الصوت والغاز في الشارع العام وتجاه منازل المواطنين المقابلة للجدار، وتشن حملات مداهمة وتفتيش للعمارات السكنية بحجة أن العمال يفرون إليها حين يتم قمعهم بقنابل الصوت والغاز.
في الشارع الموازي لجدار الفصل العنصري، التقت الجزيرة نت مجموعة من العمال الذين كانوا يترقبون اللحظة المناسبة للقفز عن الجدار، رفقة من يساعدهم (بوضع السلام والحبال) لكنهم رفضوا إجراء مقابلات وسمحوا ببعض الصور عن بُعد حرصا على سلامتهم.
في ذات الشارع، التقت الجزيرة نت أصحاب متاجر يتعرضون بشكل شبه يومي للتضييق من قبل الاحتلال بالاقتحامات والتفتيش بحثا عن عمال قد يختبئون فيها أو بحثا عن الأدوات التي يستخدمونها في تسلق الجدار كالحبال والسلالم.
يقول أحد التجار -طلب عدم الإشارة إلى اسمه- "هدف قوات الاحتلال دفع أصحاب المحال للتصدي للعمال والسماسرة الذين يقومون بمساعدتهم، ومنعهم من محاولة الدخول إلى القدس من خلال القفز عن الجدار، الجيش يدخل يؤذي الجميع ويخرج ويريد لنا أن نشتبك مع بعضنا، لكن أنا أعلم تماما أنه لا أحد يقوم بهذه المخاطرة لولا المرار الذي يعيشه والالتزامات المعيشية التي تثقل الكاهل".
ويضيف أنه في الأيام الماضية اضطر إلى نقل أكثر من 8 أشخاص إلى أحد المراكز الطبية في الرام، إثر إصابتهم بالاختناق إذ كانوا يتواجدون في محله التجاري عندما باغتتهم قوات الاحتلال بوابل من قنابل الغاز ألقتها داخل متجره.
في ذات المتجر يعمل شابان فلسطينيان من شمال الضفة الغربية، حاولا سابقا القفز عن الجدار ونجيا من موت محقق عدة مرات، إلى أن تهيأت لهما ظروف العمل في مناطق الضفة الغربية، أحدهم "أبو عدي" الذي يقيم في بلدة الرّام وحده، ليعيل عائلته في جنين، ويعمل في متجر المقابل للجدار.
وفي حين كانت أصوات قنابل الصوت والغاز في الخلفية، كان يتحدث للجزيرة نت "الظروف التي نعيشها تجبرنا على هذه الخيارات، فالمتجر الذي كنت أملكه في جنين كان يعيل 5 عائلات ومعظم زبائننا كانوا من الداخل المحتل 1948، ولما توقفوا عن القدوم إلى جنين، كان يجب أن أجد بديلا، ولو كان ثمن ذلك أن أعيش وحيدا هنا، جربت أن أقفز عن الجدار وتملكني الخوف لأنه عندي بيت وأطفال، من سيؤمن حياتهم لو حصل لي أي شيء؟".
وأضاف أبو عدي وزملاؤه في العمل أنهم شاهدوا في ساعات منتصف الليل في إحدى ليالي البرد القارس إدخال مجموعة من الأطفال عبر الجدار حيث كان والدهم يضعهم في سلة ويرفعهم بمساعدة آخرين، ليصلوا إلى بيتهم في مدينة القدس، حيث تواجه مئات الأسر الفلسطينية هذا الواقع الذي ترفض فيه قوات الاحتلال منح أوراق ثبوتية للأطفال الذين لا يحمل آباؤهم الهوية المقدسية، ما يضطرهم لدخول المدينة تهريبا.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة