آخر الأخبار

محمود الريماوي.. قاصّ يمشي بين أريحا وعمّان

شارك

في ظهيرة خريفية من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، كان حرم جامعة اليرموك في مدينة إربد الأردنية يشهد احتفالا أدبيا مختلفا. فقد كرمت الجامعة صوتًا ظل وفيا لفن القصة القصيرة لنحو نصف قرن، حيث اعتلى القاص محمود الريماوي المنصة ليتسلم جائزة عرار للإبداع الأدبي لعام 2025 في حقل القصة القصيرة.

بدت اللحظة كأنها خلاصة رحلة طويلة امتدت بين أريحا وعمّان، بين الصحافة والسرد، وبين الذاكرة والمنفى. وبدا الريماوي كمن يعود إلى بيته بعد رحلة طويلة تنقّل فيها بين الكتابة والصحافة وهو يصغي إلى الإنسان العربي في هشاشته ومقاومته وصمته.

من بيت ريما إلى أريحا

وُلد محمود الريماوي عام 1948 في بيت ريما بفلسطين، عام النكبة. وحملت طفولته باكرا أسئلة الانتماء والغياب، فصار المكان الأول جرحا مفتوحا لا يندمل في نصوصه. في أريحا بدأ يكوّن لغته الأولى، هناك حيث الأرض وسماء الأغوار ودفء الحكايات الشعبية. وعندما حمله المنفى إلى الأردن، لم ينقطع عن جذوره، بل أعاد تشكيلها في نصوص جعلت من الذاكرة فضاء للكتابة ومن الفقد مادة جمالية.

ومنذ بداياته، كان واضحا أنه يكتب من منطقة بين الحنين واليقظة، بين الحلم والواقع. لم يكن يميل إلى الصخب، بل إلى التوغّل الصامت في عوالم الناس اليومية. وفي مكتبته القصصية تتوزع الثيمات بين الواقعي والتأملي، وبين الاجتماعي والوجودي. كتابته ليست مجرد مرآة للواقع، بل محاولة دؤوبة لاكتشاف ما وراءه. إنه قاصّ يحفر في النفس قبل الحدث، ويصغي إلى اللغة كما يصغي الناسك إلى صمته.

مصدر الصورة الريماوي يتسلم جائزة عرار من رئيس جامعة اليرموك مالك الشرايري ( صفحة جامعة اليرموك على فيسبوك)

يقوم مشروع الريماوي الإبداعي على 3 أعمدة هي الاستمرارية، والصدق الفني، والبحث عن الإنسان، فمنذ سبعينيات القرن الماضي وهو يكتب بتأنٍ ووعي، دون أن يستسلم لموجات الموضة الأدبية. لغته رشيقة لا تهادن، دقيقة من دون زينة زائدة، وواقعيته تنبع من معرفة عميقة بالتحولات الاجتماعية والسياسية في المشرق العربي.

إعلان

في زمن صارت فيه القصة القصيرة جنسا هامشيا في النشر والنقد، واصل الريماوي عمله في هدوء المؤمن بفنه. جيله عرف الخيبات الكبرى، من النكبة، إلى النكسة، ثم الغزو، والانقسام، لكنه ظلّ يرى أن الكتابة يمكن أن تنقذ الذاكرة من المحو. من هنا تأتي حيوية نصوصه التي لا تُحاضر ولا تُجمّل، بل تترك القارئ في مواجهة المرآة.

القصة مرآة الإنسان

منذ مجموعاته الأولى في السبعينيات، ظل الريماوي وفيّا لفن القصة القصيرة في زمن كانت الرواية تكتسح الساحة الأدبية. كان يعرف أن القصة لا تحتاج إلى ضجيج لتقول الحقيقة، وأنها الفن الأقرب إلى نبض الحياة. في قصصه نلتقي وجوهًا مألوفة. موظفون بسطاء، نساء ينتظرن، عمال مهاجرون، لاجئون يطاردهم الحنين، وأناس يصنعون من الهزيمة شكلا من أشكال النجاة.

الريماوي يكتب من الداخل، من المسافة التي تفصل الإنسان عن ذاته. لغته مشدودة كوتر رقيق، تمزج بين البساطة والعمق، وتغوص في التفاصيل اليومية لتستخرج منها جوهرا إنسانيا خفيا. لا يُغريه التجريب اللفظي بقدر ما يسحره السؤال الأخلاقي، وفحواه كيف يعيش الإنسان في عالم يتداعى؟ وكيف يحافظ على كرامته وسط العدم؟

صحفي يكتب بعيون القص

عمل الريماوي طويلا في الصحافة، وكان يقول مازحا "الصحافة في النهار، والأدب في الليل". لكن الليل امتدّ حتى غلب النهار. في كتابته نلمس أثر الصحفي الذي يرى بعين واقعية، ويكتب بعين أخرى تبحث عن المعنى. الصحافة منحته الدقّة، لكن الأدب منحه الخيال. ومن هذا المزج وُلد أسلوبه المتفرّد الذي يوازن بين السرد المحكم والهمّ الإنساني العميق.

لقد مشت مهنته الصحفية جنبا إلى جنب مع مشروعه الإبداعي، فمنحته الصحافة عينا ثالثة، فصار يكتب القصة كما يكتب الصحفي تقريرا ولكن عن الداخل الإنساني. فبدا وكأنه يسعى إلى رصد التفاصيل الصغيرة التي تشي بانكسارات الإنسان، وغربته في المدينة الحديثة.

مشروع سردي متواصل

مشروع الريماوي الإبداعي هو من أكثر المشاريع القصصية العربية استمرارية وصدقا. منذ أكثر من 5 عقود، ظلّ يكتب القصة القصيرة دون انقطاع، في زمن تغير فيه كل شيء، الذائقة، والنشر، والنقد، والقراء.

صدرت للريماوي مجموعات قصصية عديدة منها "العُري في صحراء ليلية"، "الجرح الشمالي"، "كوكب تفاح وأملاح"، "ضرب بطيء على طبل صغير"، "شجرة العائلة"، "رجوع الطائر"، "عودة عرار"، "عمّ تبحث في مراكش؟". وهي أعمال تشهد على روح لا تكلّ من طرح الأسئلة ولا تملّ من الإصغاء إلى الناس، وهي ليست شهادة على زمن أردني أو فلسطيني فحسب، بل على إنسان عربي يعيش بين الذاكرة والواقع، بين الوطن والحلم، بين ما يريد أن يكون وما يُجبر على أن يكونه.

حين أعلنت لجنة تحكيم جائزة عرار عن اسم الفائز، برّرت اختيارها بـ"غزارة إنتاجه وريادته في القصة القصيرة"، لكنها في الحقيقة كانت تكرّم جيلا كاملا من الكتّاب الذين ظلّوا مخلصين لفنهم رغم العزلة والتجاهل. لقد ظل الريماوي يكتب في صمت، يضع حجرا فوق حجر في بناء سردي متين، حتى صار صوته واحدا من أكثر الأصوات صدقا وعمقا في الأدب الأردني والعربي.

بين أريحا وعمّان… ظلّ يمشي

في النهاية، يبدو الريماوي كمن يمشي في طريق طويلة بين أريحا وعمّان، يحمل حقيبة مليئة بالقصص والأصوات. لا يكتب عن البطولة، بل عن هشاشتها. لا يحتفل بالنهايات، بل بالأسئلة التي تبقى معلّقة. إن تكريمه اليوم ليس مجرد احتفاء بمبدع، بل احتفاء بضمير ظل يكتب ضد النسيان، ويدافع عن إنسان بسيط اسمه العربي.

إعلان

القصة عنده ليست تمرينا على الجمال، بل مقاومة صامتة ضد القسوة، ضد التباس الحياة وضياع الذاكرة. وكأن الريماوي يقول، في كل نص يكتبه، إن الأدب ما زال قادرا على أن يمنحنا وطنا آخر من الكلمات.

لقد ظل محمود الريماوي يكتب بين الظل والنور، بين الحلم والمأساة. والحق أن جائزة عرار، بهذا المعنى، لم تذهب إلى اسم فحسب، بل إلى جيل كامل من الكتّاب الذين ظلوا يؤمنون بأن القصة القصيرة يمكن أن تكون وطنا آخر، يُسكنون فيه ما تبقّى من أرواحهم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار