تصادف اليوم، الرابع من ديسمبر/كانون الأول، الذكرى الخمسون لوفاة حنة آرنت (1906 - 1975)، إحدى أبرز المفكرات في القرن العشرين وأكثرهن إثارة للنقاش.
لم تقدم آرنت نفسها بوصفها فيلسوفة بالمعنى التقليدي، وظلت حريصة على عدم الانحياز إلى أيديولوجيا تتبنى مشروعاً سياسياً جاهزاً.
ركزت على فكرة أن الحرية تبدأ من القدرة على التفكير المستقل. ورأت أن الجرائم الكبرى في القرن العشرين لم تنتج فقط عن أنظمة قمعية، بل عن أشخاص توقفوا عن التفكير.
يبقى السؤال: ما الذي يجعل أفكار آرنت حاضرة بقوة حتى اليوم، ولماذا يستدعى اسمها عند التفكير في السياسة المعاصرة حول العالم؟
ولدت حنة آرنت في مدينة هانوفر الألمانية لأسرة يهودية، لكنها نشأت في كونيغسبرغ، مدينة الفيلسوف إيمانويل كانط. منذ سنواتها الأولى تبلورت لديها ميول فكرية ستقودها لاحقاً إلى الدراسة على يد كارل ياسبرز ومارتن هايدغر، وتظل علاقتها بالفيلسوف الأخير، فكرياً وشخصياً، من أكثر محطات حياتها إثارة للجدل.
بعد صعود النازية عام 1933، فرت إلى فرنسا حيث ساعدت اليهود الفارين على الوصول إلى فلسطين خلال عملها سكرتيرة لبارون روتشيلد. اعتقلت عام 1940 في معسكر "غور" بجنوب فرنسا، وتمكنت من الهرب بعد خمسة أسابيع، لتنتقل عبر إسبانيا إلى الولايات المتحدة. قضت هناك ثمانية عشر عاماً بلا جنسية، ما جعل قضية "عديمي الجنسية" محوراً مركزياً في كتاباتها.
حصلت على الجنسية الأمريكية عام 1951، العام الذي نشرت فيه كتابها الأشهر "أصول التوتاليتارية"، الذي يعد من أبرز الدراسات عن الأنظمة الشمولية. قارنت فيه بين النازية والستالينية، محاولةً تفسير الكيفية التي تتحول بها الدول الحديثة إلى أنظمة تخضع المجتمع كلياً عبر تداخل الأيديولوجيا والبيروقراطية والعنف المنهجي.
في كتابها "حنة أرنت: حيوات نقدية"، ترى الباحثة الأمريكية سامانثا روز هيل أن إرث آرنت لا يكمن فقط في نقد الأنظمة الاستبدادية، بل في دعوتها إلى استعادة التفكير بوصفه فعلاً يتحمل الإنسان من خلاله مسؤوليته الفردية. تقول: "تظهر لنا آرنت كيف نعيد التفكير في العالم، ونحرر أنفسنا من تقاليد الفكر السياسي، ونمارس النقد من دون الخضوع للإيديولوجيا… فقط حين نفعل ذلك يمكننا أن نحب العالم".
لعل أشهر مفهوم ابتكرته آرنت، وأكثر أفكارها شعبيةً، كان مفهوم "تفاهة الشر".
ويمكن القول إن أهم ما حققه هذا المفهوم هو أنه قدم حجة ضد اختزال الشر في شيطنة أو وحشية معينة لدى المجرم، إذ يبين أن ارتكاب الشر ليس فعلاً محصوراً بعالم الأشرار أو بالأشخاص "الوحوش".
ليس الشر بالضرورة فعلاً معزولاً وبعيداً، مرتبطاً بعطب ما أو بحالة خاصة، وليس المجرمون كما صورتهم السينما في معظمها أذكياء وماكرين ويتمتعون بذكاء منقطع النظير.
الشر، بالنسبة لآرنت، يمكن أن يكون تافهاً وأحياناً عرضياً، إذ إن الأفعال الشريرة قد تنتج عن سطحية الإنسان، وغياب تفكيره، وخوائه، وعجزه عن إقامة حوار داخلي مع ذاته.
وقد طرحت آرنت في كتابها "آيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر" (1963) هذا المفهوم من خلال الظاهرة التي جسدها الضابط النازي أدولف آيخمان أثناء محاكمته في إسرائيل عام 1961.
كان مفهوم "تفاهة الشر" محاولة لفهم كيف يمكن للأشخاص العاديين أن يرتكبوا جرائم مروعة لمجرد امتثالهم للأوامر واندماجهم في البيروقراطية القاتلة. لاحظت آرنت أن آيخمان لم يكن شخصية شريرة استثنائية، بل مجرد موظف بيروقراطي عادي، بدا متفانياً في تنفيذ الأوامر من دون تفكير نقدي أو إدراك لحجم الفظائع التي ساهم فيها. لقد كان، كما وصفته، "عادياً بشكل رهيب ومرعب".
تعرضت آرنت لانتقادات لاذعة بسبب هذا الطرح، إذ اعتبرها البعض متساهلة تجاه آيخمان أو حتى ملقية باللوم على الضحايا اليهود لعدم مقاومتهم بشكل كاف، غير أن جوهر فكرتها لم يكن تبرير أفعال آيخمان، بل الإشارة إلى أن الأنظمة القمعية قادرة على تحويل البشر إلى أدوات لتنفيذ الشر من خلال فرض الطاعة العمياء وإلغاء القدرة على التفكير النقدي.
وبسبب الهجوم الواسع الذي تعرضت له، واتهامها من قبل البعض بأنها "معادية للسامية" و"يهودية كارهة لنفسها"، ظلت أعمالها من دون ترجمة عبرية حتى عام 1999، تاريخ ترجمة أول عمل لها إلى اللغة العبرية.
يتكون كتاب "أصول التوتاليتارية" (1951)، أشهر أعمال حنة آرنت، من ثلاثة أجزاء مترابطة ترسم خريطة تاريخية وفكرية للصعود الشمولي في أوروبا.
في الجزء الأول، المخصص لمعاداة السامية، تميز آرنت بين العداء الديني لليهود في القرون السابقة والعداء السياسي الحديث الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، حيث تحولت اليهودية من "دين" إلى "هوية بيولوجية" تعدّ "عيباً" ينبغي التخلص منه.
وتشير إلى أن قضية دريفوس شكلت لحظة مبكرة كشفت هذا التحول، وترى أن فرنسا امتلكت "تجربة مسبقة" استمرت نحو ثلاثين عاماً مقارنة ببقية أوروبا.
قضية دريفوس، وهي فضيحة سياسية وقضائية في فرنسا، اتهم فيها الضابط اليهودي ألفريد دريفوس بالخيانة عام 1894 من دون أدلة كافية، وأصبحت رمزاً لصعود معاداة السامية والانقسام الحاد داخل الجمهورية الفرنسية.
أما الجزء الثاني، المتعلق بالإمبريالية، فيقدم تحليلاً لمرحلة التوسع الأوروبي منذ عام 1884. بالنسبة لآرنت، لم يكن هذا التوسع مجرد س سعي إلى النفوذ الاقتصادي أو السياسي، بل لحظة تمرد البرجوازية على حدود الدولة والأمة التي قيدت حركة رأس المال.
وتظهر هنا البذور الأولى للشمولية: بيروقراطيات تخدم التوسع، وقوانين تطبق خارج الوطن بوحشية لا تحتمل داخله، وعقائد عنصرية تستخدم لتبرير السيطرة. وتوضح آرنت أن الحركات القومية التوسعية، مثل القوميتين الجرمانية والسلافية، ستغذي لاحقاً النازية والستالينية.
في الجزء الثالث، المعنون بـ"النظام الشمولي"، تحدد آرنت الخصائص الفريدة للشمولية. فهي ليست نظاماً سياسياً ثابتاً، بل حركة تسعى باستمرار إلى تدمير الواقع وإعادة تشكيله، ذات طموح عالمي لا يعترف بحدود جغرافية أو بنظام تراتبي مستقر. وتصف الشمولية بأنها مشروع يستهدف السيطرة على المجالين العام والخاص معاً، وإعادة تنظيم المجتمع بالكامل وفق رؤية أيديولوجية تهدف إلى إزالة كل اختلاف.
خلال متابعتها لمحاكمة أدولف آيخمان، تبلورت لدى حنة آرنت قناعة بوجود رابط جوهري بين القدرة على التمييز بين الخير والشر وبين القدرة على التفكير. كان آيخمان يجسد بالنسبة لها الإنسان الذي لا يفكر. فالتفكير، كما عند أفلاطون، هو دخول في حوار مع الذات، وهذا الحوار لا يتم إلا في لحظات الانسحاب والسكينة، بعيداً عن صخب الحياة اليومية. في هذا الانسحاب تظهر "الذات الأخرى" التي تحاور الإنسان وتطالبه بالمحاسبة.
في كتابها الأخير "حياة الفكر"، توضح آرنت أن التفكير لا يحدث في حضور الآخرين، بل في حوار الإنسان مع نفسه، أو ما تسميه "الثنائية في الواحد". وترى أن الخطر الأكبر يكمن في انعدام التفكير، فعندما يعجز الفرد عن الانسحاب إلى ذاته لمساءلة أفعاله، يصبح عرضة للانقياد وراء الجماعة، "منساقاً مع ما يفعله الجميع ويؤمنون به". عند تلك النقطة يولد الشر، الذي وصفته بأنه "تافه" لأنه ناتج عن غياب التفكير نفسه.
وفي هذا السياق، كانت آرنت من أوائل الذين حذروا من أثر التقنية في العالم الحديث على القدرة على التفكير. وقد أعربت عن قلقها من السطوة المتزايدة للتقنية التي تميل، في زمن غزو الفضاء، إلى فرض نفسها بوصفها القيمة الأساسية التي توجه اختيارات البشر.
وربما يكفي النظر اليوم إلى صعود الذكاء الاصطناعي والأسئلة الأخلاقية التي يثيرها استخدامه، ولا سيما في تكنولوجيا الحروب، ليتجدد سؤال آرنت حول "تفاهة الشر" بوصفه مرتبطاً أيضاً بغياب التفكير وحلول منطق الحساب أو الخوارزمية مكانه.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة