آخر الأخبار

باستخدام "الذرات الباردة" علماء يحاولون كشف أسرار الأشعة الكونية

شارك

نجح باحثون من جامعة برمنغهام البريطانية -بالتعاون مع جامعة شيكاغو الأميركية- في تنفيذ تجربة مخبرية تُحاكي آلية تسريع الجسيمات التي تحدث طبيعيًا في الكون، والمعروفة باسم "مسرّع فيرمي".

يُعد هذا الإنجاز خطوة كبرى نحو استكشاف ظواهر فيزيائية معقدة تحدث في بيئات فلكية شديدة القسوة، مثل بقايا المستعرات العظمى والثقوب السوداء.

وتقول فيرا غواريرا، الأستاذ المشارك في قسم الفيزياء وعلم الفلك بجامعة برمنغهام، وأحد المؤلفين الرئيسيين بالدراسة، في تصريح حصلت الجزيرة نت على نسخة منه "يمثل عملنا خطوة أولى نحو دراسة آليات فيزيائية فلكية أكثر تعقيدًا داخل المختبر".

ويعتمد مُسرّع فيرمي، الذي اقترحه الفيزيائي الإيطالي الشهير إنريكو فيرمي في الأربعينيات، على اصطدام الجسيمات المشحونة بما يشبه "المرايا" المغناطيسية المتحركة، مما يمنحها طاقة متزايدة مع كل اصطدام.

ورغم تبنيه كنموذج تفسيري لتسارع الأشعة الكونية، ظل إثبات هذه الآلية في المختبر تحديًا كبيرًا. وهنا يبرز ما أنجزه فريق جامعة برمنغهام، والذي نشر نتائجه في دراسة بدورية "فيزيكال ريفيو ليترز".

مصدر الصورة أبرز مصادر الأشعة الكونية المعروفة أو المُشتبه بها هي بقايا المستعرات العظمى (رويترز)

مُسرّع مُصغر

استخدم الباحثون ذرات روبيديوم مُبرّدة إلى درجات حرارة تبلغ نانو كلفن، أي جزء من المليون من درجة الصفر المطلق، فيما يعرف بالبرودة الفائقة، واحتجزوها بين حاجزين ضوئيين يعملان كمرايا إحداهما متحركة والأخرى ثابتة. وقد تم ضبط الحواجز المصنوعة من أشعة ليزر عبر جهاز دقيق يسمى جهاز المرايا الرقمية، مما يسمح بتشكيل الحواجز وتحريكها بسرعات محددة.

وعندما تُبرّد الذرات إلى درجات حرارة قريبة من الصفر المطلق، تصبح بطيئة للغاية. وهذا يسهل من تتبعها، وقياس سرعتها بدقة، والتحكم في مسارها باستخدام الليزر.

إعلان

كما تتصرف ذرات الروبيديوم المُبردة كجسيمات نقية وواضحة، فعند درجات حرارة عالية، تتصرف الذرات بفوضوية ويمتلئ الوسط بالتصادمات العشوائية، أما في درجات الحرارة فائقة الانخفاض، فتقل التصادمات كثيرًا، وتسلك الذرات سلوكًا كموميًا نقيًا، ويمكن وصفها بمعادلات بسيطة وواضحة، مما يسهل الدراسة والتفسير.

وبحسب الدراسة، فإن المسرع الناتج لا يتجاوز طوله 100 ميكرومتر فقط، لكنه قادر على إنتاج نفاثات ذرية بسرعات تتجاوز نصف متر في الثانية.

وتمكن هذه التقنية الذرات من الاصطدام عدة مرات بالحاجز المتحرك، مما يمنحها دفعات متتالية من الطاقة. وبعد عدد كافٍ من الاصطدامات، تصل الذرات إلى سرعة تمكنها من الإفلات من الحواجز، مكوّنة نفاثة ذرية عالية الطاقة.

مصدر الصورة الباحثون يشيرون إلى إمكانية استخدام هذا التكنيك في مجالات أخرى مثل الكيمياء الكمومية (شترستوك)

محاكاة فيزياء الكون

الأشعة الكونية جسيمات مشحونة عالية الطاقة مثل البروتونات والإلكترونات، وأنوية ذرات ثقيلة تأتي من الفضاء وتصطدم بالغلاف الجوي للأرض بسرعات قريبة من سرعة الضوء.

وتعد أبرز مصادر الأشعة الكونية المعروفة أو المُشتبه بها بقايا المستعرات العظمى، حيث تُقذف مواد من نجم منفجر بسرعة هائلة، بالإضافة إلى النجوم النابضة، وهي نجوم نيوترونية تدور بسرعة وتولد مجالات مغناطيسية قوية جدًا.

كما تطلق الثقوب السوداء والنجوم الثنائية أحيانًا "نفاثات مادية" بسرعات هائلة. وأخيرًا، قد تؤدي الانفجارات العنيفة جدًا مثل انفجارات أشعة غاما إلى هذه الأشعة الكونية.

ولا تملك الطبيعة مرايا ضوئية كما في المختبر. لكنها تملك ما هو أقوى، وهي الصدمات البلازمية والمجالات المغناطيسية المتحركة. وتخيل جسيمًا مشحونًا مثل بروتون أو إلكترون يتحرك في الفضاء. وعندما يصادف الجسيم موجة صدمية ناتجة عن انفجار نجم أو نفاثة من ثقب أسود، يصطدم الجسيم ويرتد بسرعة فيتسارع ويكتسب طاقة أعلى، كأنه كرة تتجه نحو مضرب يتحرك في الاتجاه المضاد لها ليضربها بكل قوته، فترتد بسرعة هائلة.

ويقول أميتا ديب، الأستاذ المساعد في فيزياء الذرات الباردة التجريبية والفيزياء وعلم الفلك بجامعة برمنغهام، وأحد الباحثين الرئيسيين في الدراسة، في البيان الصحفي الصادر من جامعة برمنجهام "النتائج التي حققها مسرع فيرمي الخاص بنا تفوق أفضل طرق التسريع المستخدمة حاليًا في تكنولوجيا الكم" ويضيف "يتميز المسرع بتركيبه بالغ البساطة وصغر حجمه، ولا توجد حدود نظرية قصوى لأدائه."

وقد أظهرت البيانات أن الذرات يمكن أن تصل إلى سرعات تقارب 0.5 متر خلال 5 مللي ثانية فقط، وهي نتائج تضاهي، بل وتتفوق، على التقنيات الكمومية. كما أن تصميم المسرع يتيح تحكمًا فائقًا في اتجاه وسرعة الذرات، فقط من خلال تغيير الارتفاع النسبي للحواجز، كأنك تكبر حجم المضرب فيزداد عدد التصادمات وتزيد سرعة الجسيمات.

مصدر الصورة هذا الإنجاز خطوة كبرى نحو استكشاف ظواهر فيزيائية معقدة تحدث في بيئات فلكية شديدة القسوة (رويترز)

اختبار بيل

لم يكتف الفريق بالمُسرع، وإنما سعوا لاختباره عبر فرضية فيزيائية لطالما استُخدمت لفهم تسارع الأشعة الكونية، وتُعرف باسم "حجة بيل". فعندما تتسارع جسيمات مثل الذرات أو الإلكترونات، فإنها تكتسب طاقة في كل مرة تصادم. لكن قد يهرب بعضها أو يُفقد من النظام قبل الوصول لأقصى مراحل التسارع.

إعلان

وبمرور الوقت، تتكوّن لدينا مجموعة من الجسيمات خارج المُسرع تمتلك طاقات متفاوتة، فبعض الجسيمات بقيت لفترة أطول وتلقت تصادمات أكثر، فصارت أسرع وأعلى طاقة.

وتقترح "حجة بيل" أن مجموعة الجسيمات المتباينة في الطاقة الناتجة عن التسارع تُكوّن نمطا معينا أشبه بالهرم، بحيث تكون الجسيمات الأعلى في الطاقة قليلة جدًا ممثلة لقمة الهرم، بينما الجسيمات الأقل في الطاقة أكثر، وكلما قلت طاقة الجسيمات الناتجة عن التسارع والتصادم، زاد عدد الجسيمات، بافتراض هروب الأغلبية قبل الوصول للحد الأقصى من التسارع، لتٌمثل قاعدة الهرم بسبب خروجها المبكر من المٌسرّع.

واستخدم الباحثون الليزر لضبط احتمالية هروب الذرات بعد كل اصطدام. وبحسب الدراسة، يقول الباحثون "نتائجنا تتوافق مع النموذج الرياضي الذي توقعته "حجة بيل" (الشكل الهرمي) مما يعزز من مصداقية تسارع فيرمي كآلية واقعية وراء توزيع طاقة الأشعة الكونية".

من المعلومات الكمومية إلى الذكاء الاصطناعي

تختتم غواريرا بالقول "تُعد بساطة وفعالية مسرع فيرمي الخاص بنا أداة قوية للبحث الأساسي، وكذلك للتطبيقات العملية في تكنولوجيا الكم." وتضيف "هذا المسرع فريد من نوعه في بساطته وكفاءته، وقد يكون حجر الأساس في تصميم أدوات جديدة لمعالجة الحزم الكمومية في المستقبل".

ولا يقتصر نجاح المُسرع على استكشافات فلكية فقط، بل يشير الباحثون إلى إمكانية استخدامه في مجالات أخرى مثل الكيمياء الكمومية، حيث يمكنه توليد عينات عالية الطاقة ومنخفضة الحرارة لإتمام التفاعلات الجزيئية، وفي تقنيات كمومية أخرى.

إن ما يجعل هذا المشروع مميزًا هو تزاوج البساطة التقنية مع العمق الفيزيائي. فبحسب الدراسة، يسمح التحكم الكامل في الحواجز بمحاكاة الموجات المنتشرة في بلازما النجوم، أو تمثيل آثار الصدمات النجمية المتحركة، مما يفتح الباب أمام دراسة تأثيرات كان من المستحيل محاكاتها حاسوبيًا بدقة.

وتمثل تلك التجربة تحولًا نوعيًا في قدرة المختبرات الأرضية على استنساخ آليات فيزيائية ترتبط بظواهر تقع على بُعد ملايين السنوات الضوئية. وبالمزج بين عبقرية التصميم وبراعة التنفيذ، يرسم هذا الابتكار مسارًا جديدًا لفهم فيزياء الكون، وقد يساعدنا على بناء أدوات تكنولوجية تُعيد تعريف حدود الممكن في عالم الكم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار