شفق نيوز- الديوانية/ بابل/ النجف
على مدى مئات الكيلومترات، تنسج الحشود طريقها إلى كربلاء عبر مسارات متوازية، تتنوع تضاريسها بين بساتين عطشى، وجسور تعانق الغروب، وممرات تاريخية وُلدت في السرية. لكن ما يبدو ظاهرياً رحلة دينية سنوية، يكشف عن شبكة أعمق من العلاقات الاجتماعية، والتحولات المناخية، والدلالات السياسية التي تحيط بالعراق اليوم.
المسار الأول.. الشامية
في قضاء الشامية بمحافظة الديوانية، تسير الحشود على دروب ترابية صاغتها أقدامهم عبر الزمن، بين بساتين جفت مجاريها، لكن النخيل ما زال يمدّهم بظل قصير، وتفتح بيوت الناس أبوابها للماء البارد ولقيمات الخبز الساخن. يقول أحدهم وهو يمسح العرق عن جبينه: "هنا نشم الأرض كما لو كانت تعرفنا بالاسم".
المسار الثاني.. جسر الشوملي
وبموازاة ذلك، إلى جنوب بابل، عند جسر الشوملي، يصير الطريق جسراً آخر بين قلوب الزائرين؛ إيرانيون على دراجات هوائية يلتقون بعراقيين قادمين من واسط. لا لغة سوى الابتسامات، ولا وجهة سوى كربلاء. يلتقطون الصور والسيلفي والخلفية غروب ذهبي على مياه الفرات، ثم ينطلقون معاً، صوت الدراجات يمتزج بوقع الخطوات.
المسار الثالث.. "طريق العلماء"
صوب النجف، يمتد طريق يعرفه التاريخ قبل أن تحفظه الخرائط. "طريق العلماء" الذي كان مسلكاً سرياً في عهد البعث، حين كانت الزيارة الأربعينية محرّمة على الحياة نفسها. هنا، كان العلماء والزائرون يتسللون بين النخيل وعلى ضفاف الفرات، هاربين من عيون الرقباء. واليوم، يسير فيه مئات الآلاف علناً، تتقدمهم الرايات، وترافقهم مواكب توزع الخبز والشاي، كأن الماضي ينحني ليصافح الحاضر.
ثلاثة وجوه للطريق، لكن قلب الرحلة واحد. من الشامية إلى الشوملي، ومن هناك إلى "طريق العلماء"، تلتقي الدروب في كربلاء، لتكتمل الحكاية التي تُكتب كل عام على الأرض قبل أن تُكتب في الذاكرة.
وبينما تتقاطع هذه المسارات في كربلاء، يمتزج الغبار في الغبار، والخطوات في إيقاع واحد. هنا، يصبح الطريق نفسه مزاراً، والمشهد البسيط، كوب ماء، ظل نخلة، ابتسامة عابرة، هو ما يبقى في الذاكرة أكثر من الوصول. في النهاية، ليست المسافة هي ما يوحد الزوار، بل الإحساس المشترك بأن هذه الرحلة، بكل ما تحمله من تعب ودفء وضيافة، هي مرآة لما يمكن أن يكون عليه المسير إلى أربعينية الإمام الحسين.