شفق نيوز/ في زاوية صغيرة بمحاذاة شارع المحكمة القديم وسط مدينة كركوك، يجلس رجل في السبعين من عمره، تُزين جدران مرسمه لوحات من الخط العربي والزخرفة الإسلامية، وأخرى استخدم فيها موهبته لتعريف الأطفال وتلاميذ المدارس بالحروف وبعض المعالم العراقية والظواهر الطبيعية، وتنتثر أمامه مختلف أنواع الأقلام الخاصة بعمله.
فليح حسن مراد، المعروف بـ"أبو فراس"، أحد أقدم الخطاطين والرسامين في المدينة، الذي حوّل شغفه بالحرف العربي إلى مسيرة فنية امتدت لأكثر من أربعة عقود، استطاع خلالها المواكبة بين هذه الموهبة الفنية ووظيفته البعيدة كل البعد عن الفن، كونه كان شرطياً مهمته تنفيذ القانون.
ملتقى الفن والقانون
ولد أبو فراس عام 1945، والتحق في شبابه بسلك الشرطة وعمل في إدارة شرطة كركوك، لكن قلبه ظل معلقاً بالخط العربي. لم تمنعه الوظيفة الرسمية من تطوير مهاراته، فكان يخطّ أسماء الضباط والمراجعين بخطه الجميل في سجلات الإدارة، حتى أصبحت أنامله معروفة في أروقة المؤسسة.
ويُعدّ الخط العربي من أبرز الفنون الإسلامية، فهو يمتاز بالتوازن البصري والدقة الهندسية والروحية. وقد تطور عبر العصور من خلال مدارس فنية مختلفة، أبرزها:
المدرسة الكوفية: ظهرت في مدينة الكوفة، وامتازت بالزوايا والاستقامة، وكانت تُستخدم في المصاحف والنقوش الحجرية.
المدرسة البغدادية: ظهرت في العصر العباسي، وركزت على تطوير خطوط النسخ والثلث بروح إبداعية دقيقة.
المدرسة العثمانية: أبدعت في الخط الديواني والرقعة، وبلغت أوجها في إسطنبول حيث كان الخطاطون من طبقة الصفوة.
المدرسة الفارسية: أضافت لمسات أنيقة على الخط الفارسي والنستعليق، وامتازت بجمالية الحروف وطولها وانسيابها.
وقد أتقن أبو فراس معظم أنواع الخطوط، ومنها:
النسخ: الأكثر وضوحاً واستخداماً في الكتب والمصاحف.
الثلث: خط العناوين والزخرفة، ويُعرف بتعقيده الفني.
الرقعة: سهل وسريع للكتابة اليومية.
الديواني: مائل وزخرفي، استخدمه العثمانيون في الدواوين الرسمية.
الكوفي: أقدم الخطوط وأكثرها زوايا وهندسة.
الفارسي: مميز بانسيابيته وطوله وأناقة حروفه.
يقول أبو فراس لوكالة شفق نيوز "لكل خط روح خاصة، وله قواعد صارمة لكنك بمجرد أن تتقنها، تستطيع أن تبتكر داخلها دون أن تُفسد الجمال".
الزخرفة فن يرافق الحرف ويكمله
لم يكن الخط وحده شغف أبو فراس، بل برع أيضاً في فن الزخرفة الإسلامية، الذي يُستخدم لتزيين المصاحف، والجدران، والقباب، والمخطوطات. ويمتاز بتكرار الأشكال الهندسية والنباتية بتوازن دقيق.
كانت أعماله مزيجاً فنياً يجمع بين الخط والزخرفة، متأثراً بالطبيعة العراقية من أهوار الجنوب، مروراً بملوية سامراء، إلى جبال كوردستان. وداخل مرسمه، كان يُعدّ مجسمات تعليمية، ويكتب إعلانات يدوية، ويخط اللافتات للفعاليات العامة.
عاصر عمالقة الخطاطين
عاصر أبو فراس أبرز خطاطي كركوك، وعمل معهم، لكنه اختار البقاء في مرسمه الصغير، مقابل ساحة تجمع السيارات في وسط كركوك، ليجعل منه ملتقى للفن والحرف. خرّج من بين يديه عدداً من الخطاطين الشباب، ويؤكد أن تعليم الخط لا يعتمد على الموهبة فقط، بل على الصبر والدقة.
ويُعرف أبو فراس بسخائه وبساطته، ويقول أحد تلاميذه "علّمنا مجاناً، وكان يفتح مرسمه لمن يرغب بالتعلم دون مقابل، مؤمناً بأن الخط رسالة وليس مهنة فقط".
وفي ختام حديثه، يقول أبو فراس "كركوك مدينة عريقة، وكل حجر فيها يحكي تاريخاً. وأنا أعتز بأنني وضعت بصمتي فيها من خلال الحرف والزخرفة. عملي لم يكن وظيفة بل شغفاًلاينتهي".