منذ اللحظة التي بدأ فيها اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بالتنفيذ عقب "قمة شرم الشيخ " في 13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بدت الساحة الإنسانية في القطاع وكأنها تتنفس للمرة الأولى بعد عامين من الحرب والإبادة، غير أن طريق التعافي ما زال محفوفا بالتحديات، في ظل استمرار القيود الإسرائيلية على دخول المساعدات رغم الوعود التي رافقت اتفاق التهدئة.
في هذا المشهد، تؤدي تركيا دورا مهما في الجهود الإنسانية والإغاثية في قطاع غزة عبر مؤسساتها الرسمية ومنظماتها التطوعية، وعلى رأس هذه المؤسسات تأتي هيئة الإغاثة الإنسانية التركية التي استأنفت نشاطها في القطاع فور توقف القصف الإسرائيلي.
وتأتي هذه الجهود التركية بالتوازي مع جهود مصرية وخليجية في إيصال المساعدات، في إطار تنسيق إنساني دولي متواصل، بينما تبقى القيود الإسرائيلية أبرز عقبة أمام انسياب الإغاثة واستعادة القطاع لعافيته.
وضمن خطة أوسع لتوحيد قنوات الدعم الإنساني، قررت السلطات التركية تعيين محمد غلّو أوغلو السفير السابق ورئيس إدارة الكوارث والطوارئ ( آفاد ) الأسبق منسقا خاصا للمساعدات إلى فلسطين، في خطوة تعكس رغبة أنقرة في الانتقال من الدعم الموسمي إلى إدارة أكثر تنظيمًا وفاعلية لملف غزة.
يقول بهجت أتيلا، رئيس فرع هيئة الإغاثة الإنسانية التركية في ولاية شانلي أورفا (جنوب تركيا) -في حديث خاص للجزيرة نت- إن "الأيام التي تلت وقف إطلاق النار شهدت وصول أولى قوافل المساعدات التركية إلى القطاع، كما انطلقت سفينة أكدنيز من ميناء مرسين بإشراف إدارة الكوارث والطوارئ التركية وبمشاركة 17 منظمة مدنية، وحملت على متنها نحو 900 طن من المواد الغذائية والمستلزمات العاجلة".
ويضيف أتيلا أن الجمعية شاركت في تلك الشحنة بتسليم 9 شاحنات تحتوي على 200 طن من الأغذية المعلبة، مؤكدا أن السفينة كانت أول عمل إغاثي منظم يدخل غزة بعد التهدئة، وهي بداية لجسر دائم من تركيا نحو القطاع.
ويقول المسؤول بهيئة الإغاثة التركية إن "التحضيرات جارية لإطلاق سفينة ثانية باسم أناضولو لتسيير دفعة جديدة من المساعدات"، مشددا على أن برامج الهيئة في غزة لا تقتصر على الإطعام، بل تشمل برامج موسّعة لإزالة الأنقاض وتنظيف الطرق شمالي القطاع، تمهيدا لعودة السكان إلى أحيائهم.
ويؤكد أتيلا أن الأيام الأخيرة أظهرت تغيرا في نبض الحياة، إذ بدأت الأسواق تفتح جزئيا، والناس يحاولون النهوض رغم الدمار، لكن غزة ما زالت بحاجة إلى كل شيء، الأمن أولا، ثم المأوى والغذاء والدواء.
وتشير بيانات حديثة صادرة عن الهيئة الإغاثة التركية إلى أنها أنفقت منذ بداية الحرب على غزة نحو 80 مليون دولار في مشروعات إغاثية داخل غزة، بينها 37 مليون وجبة ساخنة و133 مليون رغيف خبز، إلى جانب مئات آلاف السلال الغذائية وحزم النظافة، وآلاف الخيام والبطانيات والمستلزمات الطبية.
فضلا عن تشغيل 12 سيارة إسعاف وإمداد القطاع بمئات آلاف اللترات من مياه الشرب والوقود والمساعدات النقدية للأسر المتضررة.
"ورغم ضخامة هذه الجهود، فإن إسرائيل ما زالت تعيق وصول المساعدات وفرق الإغاثة من تركيا وغيرها من الدول بشكل منتظم، إذ تحتجز بعضها لأسباب تصفها بأنها أمنية، كما أنها قامت بأعمال قتل وعنف تخرق به اتفاق وقف إطلاق النار" كما يقول أتيلا.
ويضيف كل تأخير في دخول شاحنة يعني حرمان مئات العائلات من وجبة أو علاج، لكن الاحتلال يستخدم البيروقراطية كأداة حصار جديدة.
ويرى أن الدور التركي في غزة اليوم يتجاوز المساعدات العاجلة إلى الحضور الإستراتيجي في إعادة الحياة، قائلا إن "فلسفة الهيئة تنطلق من مبدأ الإخلاص لا الاستعراض، وما نقدمه ليس منّة ولا تفضّلا، بل واجب إنساني وإسلامي، و نحن سنظل ندعم غزة باسم الأمة، وسنظل فيها حتى يزول الألم".
ويشير رئيس فرع أورفا في هيئة الإغاثة التركية إلى أن الجمعيات المحلية في الولايات التركية، ومن بينها أورفا، تشهد حملات تبرع واسعة لدعم غزة، مضيفا أن الهيئة تستعد لإرسال قافلة من عشرات الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية الجاهزة وحليب الأطفال والخيام والبطانيات خلال الأسبوع المقبل، تعبيرا عن تضامن الشعب التركي مع أشقائه في غزة.
وفي رؤيته الأوسع، يرى أتيلا أن تركيا خلال الربع قرن الأخير أصبحت أكثر الدول حضورا في ساحات المظلومين حول العالم، ويؤكد على ما يردده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دوما بأن "فلسطين و القدس والأقصى تظل في صدارة أولويات العمل الإغاثي التركي".
ويختم أتيلا حديثه برسالة تعبر عن جوهر الموقف الإنساني التركي قائلا "من أورفا إلى غزة لا نرسل طعاما فقط، بل نرسل روح تضامن حيّة. هذه الأرض لا تُشفى إلا حين تستعيد إنسانيتها، ونحن سنبقى فيها حتى يتحقق ذلك".