في ليلة باردة من ليالي مارس/آذار 1942، شقّت شاحنة عادية طريقها إلى مرآب هادئ تابع لشركة حافلات في ضاحية هيمسكيرك الهولندية، وكان على متنها حمولة غير عادية هاربة من جحيم الحرب؛ لوحة "دورية الليل" الأيقونية للرسام رامبرانت، ملفوفة بعناية في جوفها.
كانت تلك الليلة مجرد محطة واحدة في رحلة ملحمية ومحفوفة بالمخاطر، وهي قصة ظلّت طي الكتمان عقودا قبل أن تكشف فصولها باولا بينتخس، ابنة أحد الرجال الذين آووا اللوحة في تلك الليلة التاريخية، لتروي كيف تحولت رائعة العصر الذهبي الهولندي إلى لاجئ متنقل في سباق محموم لإنقاذها من الدمار.
تروي بينتخس، الباحثة الهولندية في تاريخ الفن، قصة بدأت فصولها عام 1939، فتقول إن تمدد النازية عبر أوروبا "صاحبه ازدياد خطر الحرب مع جيراننا الشرقيين"، فقررت منظمات مختلفة حينئذ تأمين الأعمال الفنية المهمة في المتاحف الهولندية، ومن بينها لوحة "دورية الليل" الشهيرة التي نقلت من موقعها الأصلي لإنقاذها من تهديدات الحرب.
وتضيف بينتخس أن والدها، زوارته ياب بينتخس، وابن عمه روي شاركا في تلك الرحلة المثيرة للوحة عبر البلاد، وهي القصة التي كرست جهدها لتوثيقها منذ عام 2017. فإلى جانب عملها البحثي، تقدم محاضرات وعروضا تفاعلية مدعومة بالصور والوثائق التاريخية عن رحلة اللوحة، كما تطور برامج تعليمية للمدارس بهدف ربط الأجيال الجديدة بتاريخ بلادهم الفني.
ومع كل غارة قصف أحرقت مدنا ومسحت معالمها، كان السؤال يتردد في هولندا: كيف نحمي كنوزنا الفنية من جحيم الحرب؟ فبعد قصف عام 1940، تحولت مدينة روتردام إلى ركام، وكانت أمستردام الهدف التالي في أي لحظة. وهنا، برز السؤال مرة أخرى: أين ستختبئ لوحة رامبرانت الخالدة "دورية الليل"، أيقونة الهوية الهولندية وفخر متحف "الرايكس"؟ استجابة لذلك، أنشأت الحكومة الهولندية وكالة خاصة لحماية التراث، وقررت بناء 3 مخابئ حصينة تحت الكثبان الرملية، حيث لا تصل القذائف ولا تشتعل النيران.
في عام 1642 أنهى الرسام الهولندي رامبرانت فان راين واحدة من أعظم لوحاته وأكثرها إثارة للجدل، وهي العمل الذي جسد ذروة العصر الذهبي الهولندي، وغير مفهوم اللوحة الجماعية إلى الأبد. فاللوحة لا تصور مجرد صف من الجنود كما جرت العادة آنذاك، بل فرقة حرس مدني في أمستردام تتحرك في مشهد حيوي وديناميكي، بقيادة النقيب فرانس بانينك كوك بملابسه السوداء ووشاحه الأحمر، ومساعده الملازم فيليم فان رويتنبورغ بثيابه الصفراء ووشاحه الأبيض.
ببراعة لافتة، استثمر رامبرانت تقنية الضوء والظل (الكياروسكورو) ليقود عين المشاهد نحو الشخصيات الأكثر أهمية: القائدان في المنتصف، وامرأة غامضة في الخلف تحمل دجاجة، في إشارة رمزية إلى شعار الفرقة. أما بقية الألوان فقد انسجمت مع راية الجندي جان فيشر كورنيلسن، لتضفي وحدة بصرية على المشهد.
أثار العمل الضخم، الذي يبلغ حجمه نحو 3.6 × 4.3 أمتار، إعجاب معاصريه لجرأته، إذ قدم الجنود بالحجم الطبيعي كأنهم يخطون خارج الإطار نحو الحياة الواقعية. لم يكن اسمها الأصلي "دورية الليل"، بل "المسيرة للخروج من قاعة الحرس"، لكن طبقات الغبار والورنيش التي تراكمت عليها لاحقا جعلت المشهد يبدو ليليا، ومن هنا جاء الاسم الذي اشتهرت به.
ورغم أن قيمتها الفنية والتاريخية تجعلها إرثا لا يقدر بثمن، فإن الخبراء يقدرون قيمتها المادية بأكثر من 500 مليون دولار. تعود ملكية اللوحة لمدينة أمستردام، وتعد اليوم أيقونة للفن الأوروبي ورمزا لابتكار رامبرانت الذي حول البورتريه الجماعي من لوحة جامدة إلى مشهد نابض بالحركة والدراما.
لكن الحرب سبقت بناء المخابئ؛ ففي مايو/أيار 1940 اجتاحت القوات الألمانية البلاد بينما لم تكن المخابئ قد اكتملت بعد. سرعان ما نقلت "دورية الليل" إلى قاعة الفرسان في قلعة "رادبود" بميديمبليك، بعيدا عن أمستردام التي كان يخشى أن تتحول إلى ساحة حرب. وهناك، في صمت القلعة الحجري، نامت اللوحة العملاقة تحت أنفاس التاريخ.
لاحقا، ومع اكتمال مخبأ أمستردام في كاستريكوم، نقلت اللوحة مرة أخرى ودفنت تحت الرمال إلى جانب أعمال فان غوخ وموندريان وبريتنر. ثم مع استكمال المخابئ الوطنية في هيمسكيرك، وضعت "دورية الليل" هناك تحت حراسة دقيقة سمح بها حتى المحتل الألماني، لإدراكه قيمة هذه الكنوز.
وفي ليلة 23 مارس/آذار 1942، شهد مرآب شركة الحافلات "بينتخس ودي بروين" في ضاحية هيمسكيرك حدثا تاريخيا. تروي باولا أن موظفي متحف "الرايكس" كانوا بحاجة إلى أماكن آمنة ومؤقتة لإيواء 3 شاحنات محملة بالأعمال الفنية، من بينها مرآب والدها الذي كان شبه فارغ بعد أن استولى الألمان على حافلات الشركة.
في تلك الليلة، دخلت الشاحنة التي تحمل أشهر لوحة هولندية إلى المرآب، ليخاطب آرثر فان شيندل (الذي أصبح لاحقا مدير متحف الرايكس) والدها وابن عمه بالقول: "أيها السادة، أنتم الليلة تؤوون حراس الليل".
بقيت اللوحة الثمينة تلك الليلة داخل الشاحنة، محاطة بفراغ المرآب. ورغم أنها كانت ليلة واحدة، فقد دوّن المرآب اسمه في سجل حكاية اللوحة الخالدة.
تفوق رحلة التخفي التي مرت بها لوحة رامبرانت ما حدث لمعظم الكنوز الفنية في العالم. بدأت رحلتها في سبتمبر/أيلول 1939، وانتقلت بين مواقع عدة لحمايتها من الدمار:
تقول باولا: "كنت أعرف من الحكايات العائلية أن شيئا مميزا حدث في المرآب خلال الحرب، لكن العثور على الوثيقة الرسمية منحني الدليل القاطع". وعندما سئلت كيف عرف والدها ماهية الحمولة، أجابت نقلا عنه: "قالوا له: مرحبا أيها السادة، أنتم تؤوون قافلة الليل هذه الليلة… لم يكن والدي ثرثارا، بل على العكس. غادرت القافلة في اليوم التالي ولم يسمح له بالتحدث عن الأمر مع أي شخص".