وصفة للنجاح، طريقك لريادة الأعمال، نصائح للثراء السريع.. لو لم تصادف مثل هذا المحتوى الجذاب الذي يطارد الناس طوال الوقت في منصات التواصل الاجتماعي، فربما تكون من القلة سعيدة الحظ التي لم تفتهم كثيرا، بل وأفلتت من ضغوط نفسية تشكل أزمة جديدة تضاف إلى أزمات ما بات يُعرف بـ"إنسان السوشيال ميديا".
من أبرز خصائص هذا المحتوى -الذي يداعب عواطف البشر وأحلامهم- هو تقديم الإرهاق على أنه وسام شرف، والإنهاك على أنه دليل على الطموح، وأن النجاح يمر بالضرورة من بوابة غير إنسانية.
لكن الحقائق والأرقام -بل والفطرة الإنسانية- تكشف أن هذه الخريطة لم تفسد فقط معاني نبيلة مثل الجد والمسؤولية والالتزام، بل إنها تقود في الغالب إلى الفشل والاحتراق، لا إلى الإنجاز وبلوغ المجد.
وحتى لا تختلط المعاني، نحتاج إلى إجابة عن سؤال مهم: ما الخط الفاصل بين الاجتهاد سعيا نحو الطموح الضروري، والتدمير الذاتي اللاهث وراء سراب النجاح المتخيل؟
الانغماس في العمل يرتبط بمشاعر إيجابية وهو مؤشر على العافية، أما إدمان العمل فيرتبط بالقهر والشعور بالذنب، وهو مؤشر على سوء التكيف.
بواسطة سيسيلي شو أندرياسين، دكتورة في علم النفس وباحثة رائدة في إدمان العمل، جامعة بيرغن.
قبل الغوص في قلب الأزمة، يجب فصل أربعة مفاهيم يُخلط بينها:
نحن نعيش في ظل وهم جماعي مفاده أن الاحتراق الوظيفي هو الثمن الذي لا بد منه للنجاح.
بواسطة أريانا هافينغتون، مؤسسة "Thrive Global" ومؤلفة كتاب "Thrive".
من غير الموضوعي إنكار أن العمل المكثف يلعب دورا حاسما في مراحل معينة، مثل المراحل التأسيسية للمشاريع الريادية، وقتها يكون العمل ساعات كثيرة ضرورة إستراتيجية للبناء وبناء الزخم الأولي لجذب الاستثمار والعملاء. هذه المرحلة مثل مسابقات المسافات القصيرة، حيث يكون بذل أقصى طاقة لفترة محدودة أمرا منطقيا لتحقيق الإقلاع.
المشكلة لا تكمن في السباق الأولي، لكن الأزمة هي تحويل الاستثناء إلى قاعدة، والفشل في الانتقال إلى وتيرة صحية مستدامة، هنا تتحول "ثقافة الكدح" إلى فخ، حيث يصبح الجهد الظاهري بذاته غاية، بغض النظر عن النتائج أو الكفاءة.
مع الوقت تتجذر "ثقافة الكدح" كمنظومة اجتماعية خارجية تمجد الساعات الكثيرة كمعيار للنجاح. وتتغذى هذه الثقافة على "إدمان العمل" والذي تعترف به دوائر علم النفس كإدمان سلوكي.
وللأسف فإن النتيجة الحتمية هي "الاحتراق الوظيفي"، وهي متلازمة مدرجة في التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11) من منظمة الصحة العالمية ، وتُعرّفها بأنها "ظاهرة مهنية" ناتجة عن إجهاد مزمن في مكان العمل لم يُدر بنجاح.
المرونة في العمل ليست مجرد ميزة للموظفين، بل هي ميزة استراتيجية حقيقية للشركات. إنها محرك رئيسي لجذب المواهب، والإنتاجية، ونمو الأعمال بشكل عام في اقتصاد اليوم.
بواسطة المصدر: المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum).
الفكرة الجوهرية هي أن "ثقافة الكدح" تتجاهل قانونا أساسيا في الطبيعة والإنتاج، وهو قانون "العائد المتناقص". الأمر يشبه الأرض الزراعية: إذا زُرعت بلا توقف، فإنها تُستنزَف وتفقد خصوبتها ليكون حصادها هزيلا. كذلك الإنسان، يحتاج إلى فترات راحة لا يمكن اعتبارها ترفا، بل هي في حقيقة الأمر شرط لتجديد الطاقة والإبداع والإنتاجية.
وهذا المبدأ ينطبق حتى على الأشخاص الأكثر شغفا بعملهم. فقد يعتقد بعضهم أن الشغف وقود لا ينضب، لكنه أشبه بمحرك سيارة سباق فائق القوة، حيث يمكن لهذا المحرك أن يحقق أداء هائلا، ولكنه يولّد حرارة شديدة. إذا لم يحصل على فترات تبريد وصيانة، فإنه سيعطب وينهار.
نعم قد يمنحك الشغف قوة الانطلاق، لكن الراحة هي ما تضمن القدرة على إكمال السباق. الهدف ليس إطفاء المحرك، بل الحفاظ عليه ليعمل بأقصى كفاءة على الأمد الطويل.
وربما يمكننا أن نجد تلخيصا لهذا المعنى في الحديث النبوي الشريف "إِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى"؛ فمن يركض بلا توقّف يخسر الوسيلة والغاية معا.
هناك أزمة صامتة من المعاناة تؤثر على العمل في كل مكان، وإذا لم يتم التعامل معها، فستكون لها عواقب وخيمة على الاقتصادات والمجتمعات.
بواسطة بريان داو الرئيس التنفيذي لـ Mental Health UK
بعيدا عن الجوانب الإنسانية -والتي لا يمكن تجاهلها- فإن التحليل الاقتصادي يكشف أن هذه الثقافة هي المحرك الأساسي لانهيار الإنتاجية ما يكلف العالم خسائر فادحة.
فالنزْف الحقيقي للخسائر يتسرب من مكاتب الموظفين "المحترقين" أو على الأقل "غير المندمجين". والأدلة على التكلفة السلبية لهذه الثقافة ليست مجرد افتراضات.
على الصعيد البشري:
على الصعيد الاقتصادي:
ويبدو أن هذا ما أنتج تحولات في أولويات القوى العاملة، فوفقا لاستطلاع رأي أجرته شركة "راندستاد" (Randstad) لاختيار عدد من الأولويات، وضع 83% من العمال "التوازن بين العمل والحياة" كأولوية قصوى، بينما جاء "الراتب" في المرتبة الثانية بنسبة 82%.
هذا التحول تقوده الأجيال الشابة التي ترفض مقايضة صحتها بالنجاح المهني التقليدي، وهو ما وصفه محللون بأنه "ليس ضعفا، بل استجابة منطقية لتوقعات غير منطقية في بيئة عمل متصلة دائمًا".
في هذا السياق، يشير خبراء في بيئة العمل -استنادًا إلى أبحاث مؤسسة غالوب- إلى أن الهدف ليس رفض العمل الجاد، بل التحول إلى مفهوم "الاندماج الإيجابي"، حيث يعمل الموظف بطاقة وحماس دون أن يستنزف نفسه حتى الاحتراق.
الشركات تتطور باستمرار، وهي بحاجة إلى أفكار جديدة طوال الوقت. الموظفون المندمجون هم الأقرب كثيرًا إلى أفضل الأفكار. إنهم يفكرون في الشركة ككل وكيف يتناسبون معها، وأفكارهم تؤدي إلى قرارات أفضل.
بواسطة جيم هارتر، كبير خبراء الاندماج الوظيفي والرفاهية في غالوب.
الخروج من هذه الأزمة لا يتطلب التخلي عن الطموح، بل تبني نماذج عمل أكثر ذكاء، مثل:
النجاح الحقيقي، كما تثبته الأرقام والتجارب، لا يكمن في مدى قدرتنا على التحمل، بل في مدى قدرتنا على الاستدامة. إنه الانتقال إلى ثقافة تقدر جودة النتائج، وصحة الإنسان الذي يحققها.
وفي ظننا أن التحدي اليوم ليس في دفع الناس إلى العمل لوقت أطول، بل في خلق بيئة عمل إنسانية تساعد على العمل بذكاء أكثر، وللمفارقة ستكون الإنتاجية أكبر.
الخلاصة ببساطة ربما تكون في الإجابة عن هذا السؤال: هل تفضل الصعود بالدرج أم بالمصعد؟