في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، وتمدد الذكاء الاصطناعي إلى ميادين الإبداع الإنساني، بدأت الأسئلة الكبرى تفرض نفسها على طاولات البحث والنقاش: هل يمكن للآلة أن تحاكي روح الأديب؟ وهل الإبداع الأدبي قابل للتوليد الآلي؟ وهل نحن أمام نهاية الموهبة لصالح الخوارزمية؟
تلك التساؤلات تشكل العمود الفقري لكتاب "الذكاء الاصطناعي: التأهيل والتهويل" للباحثة والناقدة العراقية الدكتورة نادية هناوي، الذي صدر حديثا عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع العراقية.
وفي هذا العمل النقدي الطموح، تنقب المؤلفة في جدلية الذكاء الاصطناعي والإبداع الأدبي، وتفكك الأوهام المحيطة بقدرة البرامج التوليدية على إنتاج النصوص السردية والشعرية من خلال رؤية نقدية تستند إلى اختبارات واقعية، وتحليلات دقيقة، ووعي فلسفي بالمكانة الفارقة التي يشغلها الإنسان المبدع.
ويتوزع الكتاب في قسمين رئيسين، يتضمن كل منهما فصولا تترابط من حيث البناء الموضوعي والرؤية المفاهيمية. أما القسم الأول فيحمل عنوان "الذكاء الاصطناعي: تجارب أدبية" وفيه تقدم المؤلفة تأملات تطبيقية تستقرئ مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج المحتوى النقدي والإبداعي، مستندة إلى أمثلة مباشرة من نصوص أنتجت من خلال نماذج لغوية مثل "شات جي بي تي" (Chat GPT).
وأما القسم الثاني، فعنوانه "الذكاء الاصطناعي: سرديات معرفية" وينصرف إلى تناول الخلفيات الفكرية والفلسفية التي تحيط بجدل الذكاء الاصطناعي، مع طرح إشكالات تتعلق بالوعي، والهوية، والملكية، والحرية، والصدق.
ترى الدكتورة هناوي أن الذكاء الاصطناعي ليس أكثر من آلة حسابية ضخمة، تمتلك قدرة عالية على المعالجة اللغوية وإعادة التركيب النصي، لكنها تفتقر إلى وعي المعنى، الذي لا يتحقق بمجرد امتلاك قاعدة بيانات ضخمة أو قدرة خوارزمية على تنظيم المفردات، بل ينبثق من تجربة وجودية شعورية، لا سبيل لمحاكاتها تقنيا.
فالنصوص التي تنتجها أدوات الذكاء الاصطناعي، بحسب تحليل الكاتبة، تنتمي إلى مستوى شكلي من الأداء، تتقن التركيب البنيوي للنص، لكنها تظل عاجزة عن إدراك العمق الرمزي أو التاريخي أو التأويلي الذي يميز النص البشري، فهي نصوص تحاكي ولا تبدع، تولف ولا تنتج، تدور في محيط النصوص السابقة، ولا تنبثق من ذات مبدعة حرة.
وعلى الرغم من الإقرار بجدوى الذكاء الاصطناعي في المهام التقنية والتنظيمية، ترفض الباحثة فكرة أن يصبح بديلا عن الإنسان، أو أن يعامل بوصفه ذاتا مستقلة، إن الرهان في نظرها ينبغي ألا يكون على ما تستطيع هذه النماذج إنجازه، بل على ما ينبغي للإنسان أن يبقى مسؤولا عنه، خصوصا في مجالات التفكير الحر، والكتابة النقدية، والإبداع الفني.
وتحذر هناوي من التهويل الإعلامي الذي يصنع من الذكاء الاصطناعي "فزاعة" أو "معجزة" مذكرة بأن خلف هذه الأدوات تقف شركات ضخمة، ومصالح رأسمالية، وأن أنسنة الآلة ليست إلا مشروعا خطابيا تسويقيا يراد به تطبيع سيادة التقنية في كل مجال.
وتلفت الكاتبة الانتباه إلى ضرورة أن يتعامل مستخدمو الذكاء الاصطناعي بوعي وحذر، واضعين نصب أعينهم حقيقتين أساسيتين:
ومن هنا ترى المؤلفة أن الاستخدام الرشيد لهذه التقنيات يقتضي حضور العقل النقدي البشري ليقيم، ويتحقق، ويوجه، بدل التسليم المطلق بموثوقية ما تنتجه الخوارزميات.
ولا يكتفي الكتاب بالتنظير المجرد، بل يستند إلى تجارب واقعية قامت بها المؤلفة بنفسها. ففي أكثر من موضع، تسرد الباحثة محاولاتها في استنطاق الذكاء الاصطناعي لمقاربة أعمال أدبية عربية وغربية، فتطلب منه كتابة مراجعة لرواية أو تحليل قصيدة أو دراسة نقدية لنص أدبي، لكن النتيجة كل مرة تفضي إلى كتابة باردة، فقيرة، لا روح فيها، تغلب عليها العمومية وتفتقر إلى الدقة، ناهيك عن أنها تفتقد الإحاطة بالمرجعيات الثقافية والخصوصيات الجمالية للنصوص. وهذه التجارب تكشف أن الآلة، مهما أتقنت اللغة، فإنها لا تفهم السياق، ولا تملك موقفا نقديا، ولا تدرك الجمال بوصفه تجربة حية.
وفي قلب هذا الطرح، تعيد الكاتبة الأهمية لفكرة الوسيط البشري، فترى أن كل توظيف فعال للذكاء الاصطناعي لا يكتمل إلا بوجود عقل بشري ناقد يوجه ويدقق ويحاسب، وتشير إلى أن الإبداع لا يختزل في سرعة الإنتاج أو القدرة على التنظيم، بل يتطلب مخاضا فكريا وشعوريا لا يمكن تقليده أو استنساخه. وبهذا المعنى فإن الذكاء الاصطناعي ليس مؤهلا لأن يكون شريكا إبداعيا للإنسان، بل هو -في أحسن حالاته- مساعد تقني لا يستغني عن قيادة الإنسان وتوجيهه.
ولعل الجانب الأكثر جاذبية بالكتاب يتمثل في قدرته على إثارة الأسئلة لا الاكتفاء بتقديم الأجوبة. وتتساءل المؤلفة: هل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي كائنا حرا؟ هل يستطيع أن يكون له "جندر" أو "هوية" أو "نوايا"؟ وما حدود الوعي لدى هذه النماذج؟ وما طبيعة الحقيقة فيما تنتجه من نصوص؟ أسئلة تلامس الفلسفة كما تلامس الأخلاق، وتدفع القارئ إلى تجاوز الخطابات الإعلامية السطحية، والغوص في أعماق الإشكالات المعرفية التي يثيرها الحضور المتزايد للذكاء الاصطناعي في تفاصيل الحياة اليومية.
ولا يخفى على القارئ الحصيف أن الكاتبة لا تنحو منحى العداء المطلق للتكنولوجيا، بل تفكك ببصيرة نقدية ثنائية التهويل والتأهيل، والتي تتطلب توازنا في الحكم وتبصرا في الممارسة، فهي تدعو إلى التأهيل الذكي لتقنيات الذكاء الاصطناعي بحيث تستخدم في الإعانة لا في الإلغاء، وفي المساعدة لا في الحلول محل الإنسان، كما تحذر من التهويل الخطابي الذي يجعل من الآلة ندا للإنسان أو نظيرا له، وهو ما تراه خطأ منهجيا وخطرا ثقافيا يجب التنبه له.
وأخيرا، فالباحثة تحاول أن تقف على حافة المفارقة الكبرى التي تمثل جوهر الكتاب: كيف يمكن للإنسان أن يستخدم أدوات فائقة الذكاء دون أن يتخلى عن خصوصيته الوجدانية والمعرفية؟ وكيف نحافظ على مركزية الإنسان في عالم تغريه اللامحدودية التقنية؟ وكيف نبقي على الإبداع فعلا إنسانيا أصيلا، لا يختزل في خوارزميات أو بيانات ضخمة؟ وتلك أسئلة لا تبحث عن أجوبة جاهزة بقدر ما تستدعي يقظة ثقافية ومساءلة دائمة.
ويعد كتاب "الذكاء الاصطناعي: التأهيل والتهويل" مساهمة أصيلة في النقاش العربي المعاصر حول الذكاء الاصطناعي بفضل رؤية الكاتبة المتوازنة، وقدرتها على الربط بين التجربة الفردية والسياق العالمي. ولا يستهدف الكتاب مناقشة التقنية، بل مناقشة موضوع الإنسان في عصر التقنية، وضرورة أن يبقى هو من يوجه الآلة لا أن يستبدل بها أو يذوب فيها.