داخل غرفة صامتة في مأوى للعجزة، حيث يرسم العمر خطوطه على وجوه كبار السنّ، انبثق صوتٌ دافئٌ يكسر الجمود. ترتدي معطفها الطبي الأبيض، تمسك بيدها ملعقة صغيرة وتُطعِم مريضتها بابتسامة صادقة، ثم تشرع بالغناء، حتى تبدلت ملامح المريضة فجأة؛ من شحوب وقلق إلى نظرة امتنان وراحة.
هذا ما فعلته طالبة الطب خلود إبراهيم، التي حوّلت بصوتها غرفة العلاج إلى مسرح أملٍ صغير، لتبرهن أن الشفاء لا يأتي من الدواء وحده، بل قد يبدأ أحياناً من نغمةٍ تلمس القلب قبل الجسد.
خلود إبراهيم، أحد أعضاء كورال (ناي)، تحمل بين يديها حلماً مزدوجاً: أن تكون طبيبة تعالج الأجساد، وفنانة تُنعش الأرواح. منذ سنوات وهي تتدرّب على الغناء الجماعي، وحين بدأت مرحلة التدريب السريري، لم تستطع أن تفصل بين صوتها وسماعتها الطبية.
لم يكن المشهد عابراً. آلاف التعليقات على الفيديو عبّرت عن الامتنان والإعجاب. بعض المعلقين وصفوا التجربة بأنها "الطب كما يجب أن يكون"، وآخرون تمنّوا لو أن يضيف كل طبيب لمسته الإنسانية إلى العلاج.
خلود، فلسطينية سورية انتقلت إلى النمسا قبل عشر سنوات، تمزج بين شغفها بالموسيقى واهتمامها بالطب. وفي حديثها مع بي بي سي، تقول إن انضمامها إلى كورال "ناي" لم يكن مجرد تجربة فنية، بل مساحة يومية للتعبير والتعلّم، أتاحت لها فرصة التعمق في المقامات والموسيقى العربية.
وتشير خلود إلى أنها واجهت تحديات كبيرة بعد انتقالها من سوريا إلى ريفٍ في النمسا، حيث يكاد ينعدم الاهتمام بالموسيقى العربية أو تعليمها، بحسب قولها.
وعن لقائها بالمرضى، تشرح طالبة السنة الثالثة في الطب: "في النمسا، كونك فتاة محجبة أو عربية يعني أحياناً أنك تواجهين الرفض، وكنت أحاول كثيراً أن أُطعِم المرضى (غير العرب) أو أعتني بهم، لكنهم كانوا يرفضون بسبب نظرتهم إلي أو حالتهم النفسية".
"حاولت إثبات نفسي، بدأت بالغناء، اخترت مقام العجم، الأقرب إلى لحنهم، هُنا تغيّرت نظرتهم لي وبدأوا يتفاعلوا مع الموسيقى. شعرت أنهم أصبحوا يحسّون بالأمان تجاهي"، بحسب قولها.
وتضيف أن هذا التفاعل كان واضحاً من خلال ضحكات المرضى وحركاتهم وحتى رقصهم أحياناً، مما جعلهم يشعرون بالأمان والثقة تجاهها، وكسر كل الأفكار السلبية التي كانت ترتبط بها كمحجبة في مجتمع أوروبي.
هذه التجربة ألهمت خلود - التي تعمل في عيادة قلبية أيضاً - لإعادة التفكير في مسارها الأكاديمي؛ فقد كانت تنوي التخصص في طب الأعصاب، لكنها أصبحت الآن مهتمة أكثر بتطوير برامج علاجية تستخدم الموسيقى كوسيلة علاج نفسي بديل أو مكمل لأدوية الاكتئاب والحزن.
وتؤكد: "نفسية المريض تلعب دوراً حاسماً في عملية العلاج، وهو أمر أثبتته العديد من الدراسات، مما يجعل هذا المجال واعداً وناجحاً في المستقبل".
وعن قرار دراسة الطب فتقول إنه كان حلماً منذ الصغر، متأثرة بتجربة عائلية، إذ عانى جدها من مرض في الدماغ، ما دفعها إلى السعي لفهم المرض والبحث عن علاجات فعّالة.
لا تتوقع خلود أن تتحول هوايتها في الموسيقى إلى مهنة مستقبلية، بل تفضل أن تبقيها إلى جانب مسيرتها الطبية وسيلة لتحقيق التوازن في حياتها.
لم يعد العلاج بالموسيقى مجرد ترف أو تفاعل عاطفي مع أنغام تحرك المشاعر، بل أصبح واحداً من الأساليب العلاجية البديلة التي تستخدم بشكل متزايد في المؤسسات الطبية والنفسية حول العالم. من علاج القلق إلى تأخير أعراض الزهايمر، يبدو أن الموسيقى تتجاوز كونها فناً لتصبح أداة تدخل علاجي فعالة.
تقول نور التاجي، أخصائية تقييم وتدخل بالعلاج بالموسيقى والفنون، إن "العلاج بالموسيقى هو أحد العلاجات البديلة المتقدمة التي تستخدم في العديد من مؤسسات الخدمات الطبية باختلاف أنواعها"، مضيفةً أن تأثيره لا يقتصر على فئة واحدة أو اضطراب بعينه، بل يمتد إلى مجموعة واسعة من الحالات.
وتتابع: "يستخدم هذا المنهج في التدخل أثناء التعامل مع الاضطرابات العصبية والنمائية، كما أنه يُوصى به لتخفيف الألم لدى بعض المرضى الذين يختبرون أمراضاً مزمنة مثل السرطان، وكذلك في تأخير أعراض مرض الزهايمر والباركنسون".
بالإضافة إلى ذلك، تؤكد التاجي أن تقنيات الموسيقى تُستخدم في تطوير مهارات حسية وحركية وذهنية، خاصة لدى المصابين باضطرابات مثل النطق والتواصل الاجتماعي، مشيرة إلى أن الدراسات "تؤكد أن التأثير الإيجابي للعلاج بالموسيقى يمكن أن يُلبي احتياجات كثيرة لدى الإنسان بالإضافة إلى دوره في تحسين جودة الحياة".
وفقاً للتاجي، فإن تأثير الموسيقى يتعدى الأذن، حيث لا يقتصر على استجابة الدماغ للمدخلات السمعية، بل يمتد إلى التأثير على الجهاز العصبي والهرموني. وتقول: "تراكيب الموسيقى الصوتية ذات موجات تخاطب الجهاز الهرموني والعصبي، فيوصي العديد من المتخصصين في المجال الطبي باستثمار هذا التأثير، الذي يعتبر مسانداً وبديلًا لبعض الأدوية في كثير من الأحيان".
في حالات مثل الاكتئاب واضطراب القلق، تشير التاجي إلى أن الأطباء النفسيين غالباً ما يوصون باستخدام العلاج بالموسيقى كوسيلة مساعدة، موضحة أن الموسيقى "ترفع من مستويات هرمون السعادة وتخفض مستوى هرمون الكورتيزول، مما يساعد المريض على الشعور بالاستقرار النفسي والعاطفي، وهو أبرز أعراض الاكتئاب والقلق".
وتضيف أن هذا الاستقرار النفسي "يسهم في تهيئة المريض لتقبل أنواع أخرى من التدخلات، مثل العلاج المعرفي السلوكي".
يتعامل الكثير من الناس مع الموسيقى بطريقة يومية وعفوية: الاستماع أثناء القيادة، الغناء في الحمام، أو التفاعل مع الأغاني المحببة. لكن هل هذا مشابه للعلاج بالموسيقى في بيئة سريرية؟
توضح نور التاجي الفارق بقولها: "التفاعل العفوي هو عبارة عن استجابة فطرية غير مقصودة، يعبر فيها الإنسان عن الأثر اللحظي الذي تحدثه الموسيقى، ويكون تأثيرها مؤقتاً ولحظياً وينتهي بانتهاء الموسيقى".
أما العلاج المنهجي بالموسيقى، فتؤكد التاجي أنه "عبارة عن خطة علاجية توضع بعد تقييم الاحتياجات الخاصة بالمريض، ويُحدد لها صيغة موسيقية تعتمد على اختيار السلم الموسيقي، السرعة، الإيقاع، النغم، الآلات، أو مؤثرات خاصة لتخاطب جزءاً معيناً في جسم الإنسان وتُحدث تأثيراً مقصوداً".
وتُنفّذ هذه الخطة، بحسب التاجي، فقط على يد متخصص مؤهل في العلاج بالموسيقى، من خلال جلسات تفاعلية حسية بين المعالج والمريض، وليس مجرد جلسة استماع موسيقي.
في النهاية، تبقى لحظات مثل تلك التي صنعتها خلود بصوتها في غرفة المأوى تذكيراً بأن العلاج الحقيقي لا يقتصر على الدواء وحده، بل يتغذى أيضاً من نغمات الأمل والإنسانية التي تصل إلى أعماق القلب.
وربما تكمن قدرة الموسيقى على شفاء الروح في قدرتها على منحنا، ولو للحظة، فرصة لننسى الألم ونحتفل بالحياة بكل ألوانها.